قبل سنةٍ تقريباً، وفي أحد صباحات الدمام الباردة، كنت ذاهباً لمراجعة معاملة تخصني في إحدى الدوائر الحكومية، مضى عليها قرابة سبعة أشهر ولم يتم البت فيها بدون سبب واضح للأمانة، وكما لم أتوقع، فقد أخبروني في ذلك اليوم بأنه سوف يتم إرسال المعاملة الى الرياض، لكي يتم البت فيها، لأن صلاحياتهم محدودة كما يدعون، آمنت بالله وأستسلمت للقرار، وهل هناك غير الإستسلام للقرار لو كنتم بمكاني ؟
خرجتُ من المبنى، وأتجهت لأحد المطاعم الشعبية البسيطة لتناول الإفطار، وبعد أن أنتهيت من تناول الطعام وبينما كنت مشغولاً “بـ تخليل” أسناني بعد وجبة إقطار دسمة جداً، جاء رجل وجلس على الطاولة التي أمامي مباشرةً وكان لوحده، وأخذ يقلب هاتفه المحمول بإنتظار وصول إفطاره، وقتها جائني إتصال من أحد الأصدقاء يسألني عن المعاملة المعقدة وكان يعرف تفاصيلها الدقيقة، أجبته بأنهم ينوون إرسالها الى الرياض من الغد.. بعد الإنتهاء من المكالمة، أخذ الرجل يرمقني بنظرات غريبة ومريبة، أخذت الأمر ببساطة وتوقعت أن كل مافي الأمر هو “تشبيه” في الشكل فقط.. نسيت الموضوع، ودفعت قيمة الإفطار وخرجت .. بعد خروجي من المطعم بـدقائق، جاءني نفس الرجل وعرفني بإسمه، وقال بأنه يعمل في نفس الدائرة التي تتواجد بها معاملتي حسب ماسمع ودار في تلك المكالمة، وقال بأنه على إستعداد لخدمتي بكل مايستطيع، شكرته بحرارة لأنه يود خدمتي وهو لايعرفني ولا أعرفه، وحاولت أن أوضح له بأن هذه المعاملة مضى عليها قرابة السنة، وهي تتدحرج ككرة الثلج تماماً، كل يوم تزداد تعقيداً عن ذي قبل، ولكنه قال لي “دعني أحاول”.. قلت له “لك ماطلبت”.. طلب مني أن أتبعه الى الإدارة التي يعمل به وهي نفسها التي تتواجد بها معاملتي، دخلنا المبنى، وأخبرته بمكان تواجد المعاملة وطلب مني أن أنتظر في صالة الإنتظار لدقائق.. جلست في الصالة وكنتُ لوحدي، وكنت أراه من بعيد يذهب من مكتب الى مكتب ويصعد وينزل وبيده الأوراق .. أنتظرت لمدة لاتزيد عن النصف ساعة، وبعدها جاء والمعاملة بيده وقال لي “مبروك أنتهت معاملتك”!! تملكتني الحيرة والدهشة وقتها، وأُصبت في ذهول وأستغراب شديدين، لم أصدق وأخذتُ أُقلب الأوراق لكي أتأكد بنفسي، وفعلاً لقد تمت الموافقة من المدير العام (بشحمه ولحمه)، وعليها ختم الوزارة أيضاً!! شكرته بحرارة، وطلبت منه أن يخبرني عن سبب خدمته لي وهو لايعرفني ولاأعرفه؟ أجابني بأنه لم يفعل شيئاً عظيماً أو خارق للعادة، كل ما في الأمر أن هذا من صميم عمله وكفى.. حاول الإنصراف والإعتذار لإرتباطه بعمله الرسمي، ولكني طلبت رقم هاتفه، لكي أرد له شيئاً ولو يسيراً مما قام به، إلا أنه أعتذر بلطف، وقال لي “أرجوك بأن لاتعتبر ماقمت به ديناً ترده لي في المستقبل”، ولكني أصريت على أخذ رقم هاتفه، ووافق بعد إلحاح..
أخذتُ رقم هاتفه والمعاملة معاً ومضيت وأنا لم أصدق هل ماحدث حقيقة أم حلم.. أستمرت المكالمات بيننا بين فترةٍ وأُخرى، ولكنني لم أُقابله قط… فإنشغالة بمرض والده وملازمته له لأشهر حال دون ذلك، وبعد خروج والده بالسلامة قابلته لدقائق معدودة لاتذكر، وكان وقتها يعد نفسه لإجازة طويلة، تمتد شهرين تقريباً خارج المنطقة الشرقية، ودعته على أمل لقياه بعد العودةِ من الإجازة سالماً.. أفترقنا وبعد حوالي شهر تقريباً، وفي أحد المساءات الحزينة، وبينما كنت أستعد للذهاب للعمل مساءً، جاءتني رسالة على هاتفي من هاتفه تقول بالحزن الواحد “صاحب هذا الرقم توفاه الله صباح هذا اليوم، دعواتكم له بالرحمه، ويتقبل العزاء بمنزله في …. ” !!! لم أُصدق ولكني تأكدت من الخبر اليقين برحيله رحمه الله، عندها سقط الهاتف من يدي، ولم يسقط موقفه العظيم من ذاكرتي كل لحظة.. وأتجهت صباح اليوم التالي لتأدية واجب العزاء، ومن باب “أذكروا محاسن موتاكم” أخبرت أخوته ووالده بما فعله معي ولكنهم لم يتفآجأوا بما قام به، وقالوا لي بأنه دائماً مايفعل هذا مع من يعرفهم ومن لا يعرفهم، وأستمعت من بعض الحضور لنفس الموقف الذي فعله معي، بل وأعظم منه أيضاً . خالص التعازي لأسرته الصغيرة والكبيرة، ولكل أصدقائه وأحبابه، وعزاؤنا أنه لكل أجل كتاب ..
وعلى الرغم من أن معرفتي به قصيرة جداً، إلا أنه رحل وترك من بعده فراغاً من الصعب أن يملأه أحداً من بعده، رحل وترك الذكرى الحسنة والطيبة في قلب كل من عرفه>
رحل عبدالعزيز وترك عبارة من بعده تقول “نحن راحلون .. وأفعالنا الجميلة هي التي تبقى ” ..!!!
@essasaaaadd
التعليقات
الى جنة الخلد انشأ الله يا عبدالعزيز ليتنا كلنا جميعا نتصف بهذا الخلق النبيل
اعمل المعروف في من عرفت ومن لم تعرف فالثواب من رب عظيم.
شكرًا للأستاذ عيسى وبارك الله فيك فعلا تستحق الإشادة
قريت لك قبل فترة مقال عبارة عن قصة ايضا بعنوان ( حدث في المستشفى وش ترجع ) رائعة القصة وتسلسلها كذلك
انت تكتب بشكل مختلف عن غيرك وتملك ثقه بكتاباتك استمر ووفقك الله
رحمه الله واسكنه الجنة . هكذا هم العظماء يرحلون وتبقى اعمالهم كما هو عبدالعزيز صاحب هذه القصة..
رائعة بحق
اترك تعليقاً