يعلوا الامتعاض و يرتفع الصخب رايات و تتزايد المطالبات رافعةً اصوات الغضب مناهضة للظلم .
نعم نتفق جميعا على وجوب العدل تقعيدا و تحقيقا على كل صعيد و بكل السبل .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه ( من أين يبدأ العدل ؟ )
و قبل أن ننغمس بين طيات الإجابة علينا أن نتأمل قليلا .
أولا : أنواع الظلم و يكفينا في ذلك أن نذكر ما حسنه الألباني برواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( الظلم ثلاثة ، فظلم لا يغفره الله ، و ظلم يغفره ، و ظلم لا يتركه ، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، قال الله : (( إن الشرك لظلم عظيم )) ، وأما الظلم الذي يغفره العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدبر لبعضهم من بعض ).
و هذا الحديث يبين لنا نطاق الظلم الذي سيقودنا للأسباب و الموجبات .
و الموجب أعظم من السبب لأن الموجب يجعل وقوع الظلم عقوبة و جزاء .
فلاشك أن الشرك و هو أعظم الظلم أستحق أهله العقاب و الأمم السابقة خير دليل على ذلك مما وقع لهم من هلاك . و مع ذلك لا يزال على الأرض من يحيا مشركاً و لم يحظى بهلاك لا لشيء إلا لأن الله تعالى قد قال : ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) 3 الحجر .
و هنا نصل للظلم الذي لا يتركه الله تعالى ” ظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدبر لبعضهم من بعض ” و هو مقام الكلام هنا و الذي لا ينفك عنه رجلٌ و لا امرأة إما لهوى أو طمع أو حسد أو تسلط .
و يتضح لنا بداية سلسلة العدل و الظلم بنظرة تشبيهيه نتخيلها لتجسيد المسألة .
إن المجتمع من منظور القوة اشبه ما يكون بدوائر بعضها فوق بعض فالدائرة الكبرى المحيطة بعدد من المجتمعات هي الدولة , و تكبر الدائرة و تتوسع من الدول الضعيفة للقوية و تصغر الدوائر داخل بعضها حتى نصل للأسرة ثم الفرد .
فالعدل و الجور يتمدد من المجال الأضيق للأوسع لا العكس لأن هذا الحق الذي لا يتركه الله عز و جل
و قد روى ابن حجر الحديث المرسل عن عبد الله بن زيد : ( البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت وكن كما شئت كما تدين تدان )
خادمات كيف نعاملهن ؟
أمهات أين برهن ؟
أزواج أين طاعتهم ؟
زوجات أين حقوقهن ؟
موظفون .. عمال .. كبار .. صغار .. فقراء .. أغنياء ….. الخ
و كل معصية فيها تجرؤ على حقوق الآخرين ظلم و من هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قول الرسول صلى الله عليه و سلم : ( مُطلُ الغنيِّ ظلمٌ ) .
فإن كانت مماطلة الغني في دَينِه على مَدين من الظلم فهل تستطيعون تصور صنوف الظلم التي لا عبرة فيها للغنى و الفقر و لا لسن و لا لجنس و لا لهوية حتى السخرية أو سوء الظن و مهما كان الظلم صغيرا في اعيننا فهو عند الله كبير فلا ظالما بخير و لا يضيع عند الله شيء .
و مع الأسف أغلب ما يكون من المظالم وقعت على الناس بسبب ظلمهم لغيرهم و الإثنان يكونان ككفتي الميزان عدلا و قسطا , فمن ظلم بكلمة ردت له مثلها و هكذا كما أن الإعانة على الظلم ظلم ؟
قال بعض الشعراء:
وما من يدٍ إلا ويد الله فوقها * وما من ظالمٍ إلا سيُبلى بأظلمِ لا تظلمنّ اذا ما كنت مقتدراً * فالظلم آخره يفضي الى الندمِ تنام عيناك والمظلوم منتبه * يدعو عليك وعين الله لم تنمِ
و قال أبو العتاهية:
أمــا والله إن الظلـم لـؤم ومازال المسيء هو الظلوم إلى ديـان يـوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصـوم ستعلم في الحساب إذا التقينا غـداً عند الإله من الملـوم
و لا عجب أن يسلط الله اصحاب سلطةٍ ظُلام على ضِعاف لأن الله تعالى أعلم بخلقه فقد أرى الله تعالى بني إسرائيل رحمته و نصره بعد استضعاف و استعباد و ظلم دام سنين على يد فرعون اللعين لكنهم بمجرد ما نجوا ظلموا .. بطلبهم من موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة , ثم عبدوا العجل , وقولهم لما اراد الله إكرامهم ببيت المقدس يدخلونها بكلمة لا تكلفهم شيء و لا تسلبهم قطرة دم : ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) 24 المائدة .
ففي عِلمِ الله كانوا ظالمين , و أي ظلم ؟ أعظمه و الذي لا يغفره .
روى السخاوي في المقاصد عـن الـحـسـن الـبـصـري : إنه سمع رجلاً يدعو على الحجاج فقال له : لا تفعل إنكم من أنفسكم أتيتم ، إنا نخاف إن عُزل الحجاج أو مات أن يستولي عليكم القردة والخنازير ، فقد رُويَ أن أعمالكم عمالكم ، وكما تكونون يولى عليكم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ” الفتاوى ” في ” رسالة في الحسبة ” ما نصه : ( فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى : ” اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً ” . )
ومصداقا لذلك أنه لما سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه المستوردَ بن شدادَ يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( تقوم الساعة و الروم أكثر الناس. قال له عمرو : أبصر ما تقول ؟ فقال المستورد :
أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمرو : لئن قلت ذلك ؛ إن فيهم لخصال أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، و أوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين ويتيم و ضعيف ، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك . رواه مسلم.
فكيف بنا نطلب العدل و رفع الظلم عنا و نحن ظالمون ؟
فإن أردت رفع الظلم عنك لا بد من رفع ظلمك عن الآخرين , و إن كنا نريد النصر و العزة و أن يُولى علينا خيارنا فلا نسير على خُطى المغضوب عليهم و لا الضالين .
همسة :
أن تكون قادراً لا يعني أن تكون قاهراً فالفرق حرف و الفعل حيف .
ميساء باشا
التعليقات
بارك الله فيك اخيتي في الله
كلام رائع كعادتك مبدعه
اللهم اجعلنا ممن لايظلم ولا يشكي ظلماً
انار الله دربك ووفقك …مقال رائع
والله اسال لنا ولكم التوفيق
اترك تعليقاً