لعلنا جميعاً يعرف ذلك الأثر الذي يُنسب لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي يقول فيه لأن أمشي في حاجة أخي خير لي من اعتكافي في هذا المسجد شهراً.. ثم تساءل كم شخصاً فهم هذا المعنى وأدرك هذه العبادة واستوعب أن هناك عبادات ليست في محاريب المساجد ولا في قيام الليل أو في صيام البيض والدهر.. وإنما هي عبادة جبر القلوب وإسعادها.

أحدهم يتصدق على قريب له ويكتب على الظرف زكاة فلان! أفلا يمكن أن تجعل نية الزكاة في قلبك وتعطيه المال وتحفظ له كبرياؤه وكرامته وتحفظ معها ماء وجهك؟! وآخر يتصدق على الأسر الفقيرة ويصور تلك التبرعات ثم يقول ادعو لنا بالقبول! أوليس خيراً أن يدعو لك هؤلاء الفقراء بابتهالات قلوبهم بدلاً من انكسارها بتصويرك.. وألم يقرؤوا هؤلاء ما ذكره الذهبي في سير الأعلام أن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنه كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يطوف به على بيوت الفقراء في الظلمة فيسعد قلوبهم ولا يجرح فقرهم، ولم يعرفوا من أين كان يأنيهم معاشهم فلما مات فقدوا ما كان يأتيهم، بل وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقله في الجرب إلى منازل الأرامل والفقراء.

وآخرون يوزعون إفطار صائم فيأتي فقير غير مسلم يطلب الطعام، فيطردوه بل الأدهى والأمر أنهم يصورون هذا المقطع وهم يطردونه ليجمعوا الحَشَف بسوء الكيل؟! أو لم يعرفوا أن النبي ﷺ كان يعطي المال والزكاة لغير المسلمين أحياناً ليؤلف قلوبهم ويحببهم في ديننا الذي هو دين السلام والمحبة.. وآخر يراني أغسل سيارتي في مغسلة سيارات وكنت وقتها طالباً مستور الحال لا أملك إلا سيارة متواضعة فيقول لماذا تغسلها ستبقى قديمة مهما فعلت؟! ورغم أن هذا الموقف حصل لي قبل سبعة عشر عاماً وأكثر إلا أن أثر هذه الكلمة ما زالت في نفسي إلى اليوم، وقس على ذلك كل جرح.. فرفقاً بالقلوب وعطفاً على انكسارها فمهما اعتذر المرء على نزف كلماته فإن بعض الجروح لا تُمحى كالمسمار على الجدران مهما أزلته فالأثر باقٍ.

وإني لأعلم عن رجل يعترف بكثرة ذنوبه وتقصيره في عبادته ومع ذلك يحاول أن يكون بلسماً للقلوب فلا يجرح أحداً ولا يكسر نفساً، بل بلغ من حرصه على جبر القلوب أنه إذا أراد أن يعايد أحداً في العيد انتقى الرسائل عنده كما ينتقي أحدنا أطايب الثمار.. ولا يرسل في نهاية رسالته من أبي فلان؛ حتى لا يجرح من لم يُرزق بولد فيمن عنده، رغم أن العشرات غيره سيرسل لهذا من أبي فلان وعلان والسيرة الذاتية لحياته كلها؛ إلا أنها صحوة ضمير لأدق التفاصيل والخوف من نسمة حزن تهب على تلك القلوب.

وثمة تأمل لطيف في قصة البغي من بني إسرائيل التي سقت كلباً فأدخلها الله سبحانه الجنة رغم أن الحديث لم يذكر أنها تابت؛ لكن إسعاد كلب رغم عظم الذنب أدخلها الجنة.. فتصور حال من يغث قلب إنسان بل تصور حال من يسعد قلب مسلم لم يسجد لغير الله.. فاسعدوا القلوب فلعل في إسعادها دعوة تُستجاب وذنب يُغفر ورب كريم يرضى فخير الناس أنفعهم للناس.