مع التحولات الاقتصادية والثقافية التي تجتاح العالم أصبحت الشوارع والأزقة ليست مجرد ممرات مرصوفة ومزينة بالأشجار ، أصبحت ظاهرة ثقافية تسوّق لأشياء كثيرة من بينها التراث والأدب والعلوم إضافة إلى السلع التجارية .

والشوارع والخانات الشهيرة عالمياً ارتبطت بأحداث تاريخية وثقافية لطالما تَذَكرتَّها الأجيال البشرية جيلاً بعد جيل ، ومن هنا كانت قيمتها التي تتزايد مع الأيام.

في بلادنا كانت هناك شوارع شهيرة في وقت من الأوقات ففي الرياض هناك شارع العطايف والعصارات وشارع الغرابي في البطحاء والذي كانت تباع فيه أدوات الزينة الخاصة بالسيارات ، وشارع الوزير، وفيما بعد ظهر شارع التحلية والذي كان يمثل مرحلة من مراحل التطور في عدد من المدن ، حيث ظهور المقاهي وانتشار المطاعم على جنباته ، وظهر الشارع (الأصفر) في مدن عدة ، وظهر شارع (الحب) أيضاً في فترة معينة في عدد من المدن .
وترتبط شهرة هذه الشوارع دائماً بالنقلات الثقافية والتطورات التي صاحبت تلك الفترة .

وفي كل العالم تقريباً ثمة شوارع لها تاريخ وخصوصية ، لذلك حرصت كثير من الدول في العالم على المحافظة على الهوية التاريخية والثقافية لهذه الشوارع ، وعدم طَمْس معالمها وطابعها العمراني والاحتفاظ بالمُقوِّمات والأسباب التي أدت إلى شهرتها ، ففي مصر مثلاً لا يزال خان الخليلي مصدر جذب كبير للسياح لوجود المقاهي الشهيرة التي خلَّدها الأدب العربي عبر الرواية والسينما مثل المقهى الأشهر (قهوة الفيشاوي) والذي يعود تاريخه إلى أكثر من قرنين ونصف من الزمان ، وشهد ولادة العديد من روايات الأديب المصري نجيب محفوظ ، وتمت زياراته من قبل العديد من رؤساء الدول كالملك فيصل وجمال عبدالناصر والقذافي وغيرهم ، وهناك أيضاً شارع رمسيس وشارع قصر النيل حيث المقاهي الشعبية ومنها (مقهى أم كلثوم) ومقهى (ريش) ومقهى (قشتمر) الذي خلَّده نجيب محفوظ في رواية تحمل ذات الاسم و(مقهى الحرافيش) وغيرها.

وقد تَحولَّت هذه الشوارع بمقاهيها من مجرد ممرات وأماكن للجلوس وتضييع الوقت إلى أيقونة ثقافة ومنتديات حوارية فكرية وعلمية صنعَت الذاكرة الثقافية في الوطن العربي ، وقد ساهمت المؤلفات في تخليد ذكرياتها مثل كتاب محمود السعدني (حكايات مقهى كتكوت) وروايات نجيب محفوظ وغيرها . وأصبحت هذه الشوارع والمقاهي وسائل جذب سياحي وقيمة تاريخية تزيدها الأيام قيمة أخرى .

والشواع الشهيرة حول العالم أكثر من أن تحصى وقد تجاوزت شهرة بعضها نجوم الفن والرياضة ، ومَنْ منا لا يعرف شارع الشانزليزيه في باريس ؟ هذا الشارع الذي لا يمكن لزائر باريس إلا أن يَمُر به ويستمتع بيتناول القهوة الفرنسية في أشهر المقاهي العالمية ، كيف حوَّلتْ باريس هذا الشارع إلى وجهة سياحية ؟

بلا شك هذا هو التحدي الثقافي والرؤية البعيدة التي انتهجتها بلدية المدينة والتي بدأت بالمحافظة على هوية هذا الشارع والتعامل معه على أنه تاريخ وليس مجرد ممر مرصوف للسيارات والمشاة ، وكانت كل مراحل التطوير التي مرَّ بها هذا الشارع عبر تاريخه تراعي هذه الهوية الثقافية وتحافظ عليها وتطورها وفق معطيات العصر الالكترونية والمعمارية دون أن تخدش جماليات النمط العمراني له . وفي لندن يحتل شارع أوكسفورد الشهير مكانة تاريخية هامة ، جعل هذا الشارع من أشهر شوارع العالم جذباً للسياح حيث يمشي به يومياً أكثر من نصف مليون شخص ، وهناك شارع ريجنت بمبانيه التراثية التي تعكس تاريخ لندن وهو من أشهر شوارع التسوق في العالم ، وفي أمريكا يحتل (ممر الشهرة) في هوليود ــ كما يسمونه ــ في لوس أنجلوس مكانة سياحية مرموقة من بين شوارع العالم ، وهو عبارة عن ممشى للمشاهير يضم أكثر من 250 نجمة من نجوم هوليود ، أنظر كيف سخّروا فكرة نجوم السينما لعمل تاريخ لشارع ساهم في جذب ملايين السياح لهذه المدينة . ولعل تاريخ الشوارع في العالم يتحدث بغرابة عن أضيق الممرات في العالم وعن أوسعها وأطولها وعن الشوارع المتعرجة والشوارع ذات الأشكال الهندسية ، والشوارع التي لا تدخلها السيارات والعربات وغير ذلك .

ولعل الأحوال الجوية والطقس يساعد على المشي راجلاً في معظم دول العالم الشمالية ، وهذا ما نفتقده في بلدان الخليج حيث الأجواء الحارة جداً والرطبة في الصيف والباردة شتاء ، لذلك لجأت بعض الدول إلى عمل شوارع مغلقة مثل مجمع الأفنيوز التجاري في الكويت ، والأفنيوز معناه طرقات أو شوارع ويختلف عن البوليفارد في تصميم الشارع نفسه حيث يكون هناك فاصل في الوسط في البوليفارد يفصل بين طريقين على جانبهما تقع المحلات والمطاعم والمقاهي ، وسواء كانت الشوارع مغلقة (لظروف الطقس) أو مفتوحة فهي أفكار اقتصادية وثقافية جميلة جداً ، وتستطيع من خلالها إرسال رسالتك الثقافية التي تميزك عن غيرك من الدول والمجتمعات ، أما إذا كانت هذه (البليفارد) متشابهة فستموت بعد حين حينما تظهر أفكار أخرى جديدة لشوارع ومجمَّعات تجارية جديدة ، من هنا يجب على الأمانات والبلديات في بلادنا تطوير الشوارع العريقة والقديمة وفي ذهنهم المحافظة على هوية الشارع التي كانت سبباً في شهرته ، فكم من الشوارع التجارية والتاريخية في مدن بلادنا ؟

وهل اختفت هذه الشوارع في ظل هيمنة الطابع الحديث الذي مسخ هويتها وحولها إلى مجمعات تجارية تتشابه مع بعضها ؟ ماذا لو كان بوليفارد الرياض له هوية تميزه عن بوليفارد جدة أو الطائف؟

تخيلوا لو كان بوليفارد الطائف مثلاً يستغل موسم الورد الطائفي ويكون هوية ثقافية له تميزه عن غيره؟

لماذا لا نستغل الهَوَس الرياضي في بلادنا لإيجاد شوارع للأندية ؟ حيث تملك هذه الأندية مقدرات إعلانية وإعلامية ومادية قادرة على النجاح والجذب ، ويصبح عندنا على سبيل المثال بوليفارد الهلال والنصر والاتحاد والأهلي وغيرها؟

لماذا لا يتم استغلال التراث السعودي المتنوع لإيجاد شوارع يقصدها السياح ــ وخصوصاً الأجانب ــ خصيصاً من أجل هذا التراث ؟

نريد شوارع تبقى رغم التطور الحضاري ورغم تعاقب الأعوام ، نريد شوارع لا تجرفها تيارات التطور بل تزيدها بقاءً ، ولا يكون ذلك إلا بالمحافظة على هويتها الثقافية . وهذا هو الدور المُنتظر من البلديات وأمانات المناطق.