تُعد الأخلاق بشقيها المحمود والمذموم القاسم المشترك بين سائر البشر غير أن ما يُميز أحدهم عن الآخر ما يتصف به كلا منهم بصفات مُعينة تلعب المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية وما تعلموه عبر المؤسسات التربوية والتعليمية وغيرها من وسائل الإعلام والتقنية الحديثة دورا كبيراً في تشكيلها واختلافها وتفاوتها ولربما تغيرها بين لحظة وأخرى من جراء معايشة وتأثر هؤلاء البشر بما فرضته العولمة بكل ابعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والإعلامية ودونما قيود وضوابط تحكمها لذلك لا غرابة حينما نقول ومن منطلق هذه العوامل مجتمعة على سبيل المثال ذلكم الشخص حكيم وحليم وذو رؤية ثاقبة وآخر يحب الخير متى وجد لذلك سبيلا بينما هناك شخص غليظ القلب ومتسلط ويكتنفه الغرور وإذا ما استمرينا في هذا النسق لقلنا أيضاً بأن هناك أشخاص انطوائيين أو مترددين أو متطفلين أو مماطلين أو اتكالين وهكذا دواليك، ولعلنا في هذا الموضوع المهم للغاية نوضح ما يقتضيه التحلي وعكسه التخلي في بناء السلوك الإنساني بين ما هو مستحب وما هو مرفوض إن لم يكن حرام في المنهج الإسلامي الذي قال عنه رب العزة والجلال( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فيا هل ترى ما مفهوم التحلي؟ التحلي في المعاجم اللغوية كلمة مُشتقة من تحلى يتحلى تحلية ومنها اتصف الفرد بسلوك مُعين كقولنا مثلاً تحلى حسام بالحكمة والصبر والتواضع وتحلت أروى بملابس الحشمة والوقار بينما (س) اتصف بالنصب والاحتيال لأجل سرقة أموال الناس أو الترويج لبضائعه وهي في حالة غير جيدة .أما في العلوم النفسية فيعني التحلي تجميل القلب والوجدانيات بأصدق المشاعر الإيمانية التي تقرب إلى الله زلفى وحسن مآب وتجلب في نفس الوقت لصاحبها الطمأنينة والسكينة والإحساس بمشاعر الآخرين والسعي في خدمتهم بغض النظر عن ديانتهم وجنسياتهم كجانب إنساني وفي القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يدعو للتحلي بالصبر والذي يُمثل أعلى مراتب الإيمان استناداً لقوله تعالى ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وإلى العدل والإحسان كما في قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) وإلى العفو والتسامح كما في قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) بالإضافة للتواضع والعفة والوفاء والرحمة والشفقة والصدق والأمانة والإخلاص والتوسط والاعتدال وصلة الرحم وإكرام الضيف واحترام حقوق الجار والنخوة واغاثة الملهوف ونصرة المظلوم ومجاهدة النفس وترويضها وتهذيبها بما يتوافق مع دين الله القويم .أما التخلي وهو على النقيض من مفهوم التحلي كما أسلفنا فيعني في اللغة ترك الفرد لحقوقه عن طواعية أو تنازله عن شيء لا يروق له أو يستحسنه أو يضره أو يخرجه من ملته الإسلامية كالإشراك بالله والتبرك بقبور الصالحين وارتكاب المحرمات من قتل وسرقة وفواحش وأكل للربا وممارسة سلوكيات وتصرفات ذميمة كالغضب والكذب والتكبر والبخل ونكران الجميل والنفاق والنميمة والشماتة والخيانة ،فيما تشير الأدبيات إلى أن التحلي والتخلي مسوغان لا ينفصلان عن بعضهما البعض البتة فقد يتحلى الشخص بصفات جميلة ورائعة ولكنه يُمارس عادة شرب الدخان السيئة والضارة وقد يكون طيباً جداً غير أنه حساس ويحتاج لمعاملة خاصة ، وحتى يتحلى الشخص بكل ما ذكرناه آنفاً من قيم وأخلاق نبيلة ويتخلى عما سواها عليه أن يسبر غور نفسه من حين لآخر ويستجلي ما ترسخ فيها من معتقدات باطلة وكبرياء وحقد وكراهية وعادات سيئة وقبيحة ومنفرة والعمل على التخلص منها جميعها ومع أن التحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق غالباً ما يكون سهلة المنال فإن التخلي عن العادات والتقاليد المتوارثة وما يتعرض له الشخص من ظلم وجور وجرح للمشاعر بألفاظ نابية يصعب التخلص منها ذلك لأن ما يعلق في الذاكرة ويترسخ في العقل الباطني ليس من السهولة بمكان التخلي عنها أو نسيانها نهائياً وهو ما ينطبق عليه قول القائل ( تزيل جبل ولا تزيل طبيعة ) ولكن بالإرادة القوية والعزيمة الصادقة والإصرار الدائم يمكن تجاوز ذلك من خلال التجاهل أو النزوع إلى ما يحقق راحة النفس والبال أو كما يُقال عش يومك وأترك الماضي للماضي ما لم يترتب عليه حسن خلق ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة حين قال: المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف إلى قوله : وأحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فيما قال المفكر الأمريكي (أوليفر نابليون هيل ) بأن ما يتصوره العقل ويصدقه كيفما كان يمكنه تحقيقه من خلال تحليه بتوجيه فكره على نحو إيجابي مُضيفين لما سبق بأن كل ما يغضب الله عز وجل في السر والعلن ينبغي التخلي عنه نهائياً مع التوبة إلى الله عز وجلّ عوضاً عن كل ما يؤثر في المدارك والوجدانيات ويثبط العزائم ويحد من التفاعل في عموم مناشط الحياة من خلال الاستسلام لوساوس الشيطان وهيمنة اليأس والقنوط والخوف والتوتر والقلق على الذات وإعطائها فرصة للخمول والتكاسل والتخاذل وتبني الأفكار الهدامة والمهلكة قال تعالى وهو ما نختتم به مقالنا هذا ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )