قال تعالي : ( خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ) سورة الحاقة آية (٣٠)

لمعتْ هذه الآية العظيمة في ذاكرتي بمجرد وقوفي أمام باب الفصل ، شعرت أن ماحدث لي من تبعات الانتداب ، تصفهُ هذه الاية فأنا – مأخوذة بقوة – بسبب طبيعة مهنتي التدريسية.

– مقيدة – بأنظمة مهنة التعليم التي لا تفرق بين مُمتهنيها.

– مغموسة – ليس في جحيم جهنم ، ولكن في جحيم الكثرة وفرط الحركة و معمعة الأطفال ، وعدم الخبرة في أساسيات التعامل معهم ، ولا بطرق تدريس مناهجهم .

فتحت الباب ألقيت التحية ، البعض سمعها وردها والبعض في حالة فوضى وانشغال ، فتحت جهازي الحاسب وقمت بتوصيله بجهاز العرض الذي في الفصل ، وأخرجت جهاز مكبر الصوت ، كنتُ قد اشتريته ؛ ليغلب صوت الفوضى داخل الفصل ، لأصبح أنا المسيطرة أو كما يقال: ( خذوهم بالصوت ) وتكون شرائح الدرس التقدميّة ومقاطع الفيديو بصوت ذو جودة عالية تفوق أصواتهم.

كي أطلب من الجميع الهدوء احتجتُ إلى ربع ساعة لضبط الفصل ، أُفرق بين المتخاصمين وأمسح دمع الخائف الذي يبحث عن أمه محاولة تهدئته ، وأمسك بتلابيب الذي يصرخ ويقفز على الطاولة ؛ لاعادته لكرسيه بكل هدوء حتى لا يسقط ويتأذى.

أحد الطلبة يشير لي بأن زميلة أنس تحت الطاولة ، ذهبت تجاه تلك الطاولة في منتصف الفصل وخفضتُ من رأسي لأرى ماذا يفعل ..؟!
وجدته تحت الطاولة يعبث بحقيبته التي قد أخرج منها كل شيء ونثرها حوله وعلى ملامحه الحيرة .

قلت لهُ : أنس ماذا تفعل تحت الطاولة.

قال لي : لم أجد فطوري بالحقيبة ؛ هناك من سرقهُ مني .

أخرجتهُ من تحت الطاولة و جمعتُ أغراضه المتناثرة ، ومجموعة من الطلبة ملتفين حولنا يرقبون الحدث ، أعدتُ كل طالب بمكانه و بدأتُ رحلة البحث عن إفطار أنس .

في هذه الأثناء وبينما أنا مشغولة بافطار أنس ، وجدتُ ثلاثة أطفال أمام باب الفصل في حالة سباق ، يحاولون الخروج من الفصل ، الأول يحتاج الذهاب لدور المياة والثاني بلغ منه الجوع الشيء الكثير ، يريد أن يشتري طعاماً من المقصف والثالث لم يعجبه الفصل ويريد أن يغيره ؛ لأنهُ منزعجاً من زميله الذي لا ينفك يشاكسه على أدواته المدرسيّة ، طلبتُ من الجميع العودة لمقاعدهم ؛ كي يتسنى لي أن أبدأ الدرس.

وبعد محاولات مستميته لخفض حدة أصواتهم والبدء بشرح الدرس الذي كان يحتوي على مكونات أفراد الأسرة ، وحرف اللام بالصوت الطويل والقصير ، ومحاولاتي المتكررة برفع صوتي لأقصى درجة ؛ كي يصل للجميع ويغلب أصواتهم ، فقد وصلتُ لنقطة الصراخ بأعلى مالدي من صوت كي يستمع كل الطلبة.

في قمة انهماكِ قفز طالب من آخر الفصل مهرولاً نحوي قائلاً لي : أستاذة متى الانصراف للمنزل.

وددتُ وقتها أن أُعلق هذا الطالب بسقف الفصل ، فما زالت الحصة الأولى لم تكتمل بعد ، وقد ضرب بسؤاله جذور الشغف بأعماقي وأطفأ شُعلة الحماس بداخلي وسلب مني كل الخُطط لمجابهة هذه الحصة ومواصلة هذا الدرس .

تمالكت أعصابي ، فبعد مجهود نصف ساعة من الزمن لضبط الفصل والبحث عن إفطار أنس والبدء بالدرس ، يأتيني هذا الطالب بهذا السؤال الطفولي الساذج.

شعُرت وقتها إنه عليّ أن أتقمص شخصية (حيّ بن يقضان) في رواية ابن الطفيل ، وأعلّم نفسي المحافظة على هذا الوجود الموجود ، وأقف عند كل موقف وشخصيّة كل طفل وأقوم بتشريحهُ نفسياً و واجتماعياً وجسدياً ، ليتسنى فهم ما يحدث لي من مستحدث الأمور مع هذه الطبقة والشريحة من الأطفال.

أضعت خمس دقائق أتحدث مع ذلك الطفل الذي سألته عن اسمه و قال لي أنهُ -رائف- أناقشه وأرد على سؤاله ، شارحة له ملابسات اليوم الدراسي بعدد الحصص وزمنها وكيفية استثمارها ، وما إن أنتهيت منه ، وجدت الفوضى عصفت بالفصل مرة أخرى وضاع وقت الدرس.