أقف أمام باب الفصل أهِمُ بالدخول لأبنائي الطلبة ، يعتريني شعور قلق وخوف كشخصية -كمال- عندما يهم بالدخول في غرفة فندق (لونا) التي تحمل رقم 207 المسكونة بالغموض والأشباح في رواية غرفة 207 للدكتور أحمد خالد توفيق ، الفرق بيني وبين -كمال- أنه يدخل الغرفة الصامته التي لا يوجد بها أحد ، سوى شبح المرأة التي تُحدثه ، بينما أنا الغرفة التي سوف أدخلها تعجُّ بالصراخ والفوضى ويسكنها أربعين طفلاً.

قرعتُ الباب ثم فتحتهُ ودخلتُ مُلقية التحية ، وجدتُ نصف الطلبة مجتمعين على زميلهم (مصطفى) الذي أفرغ ما بمعدته من طعام على أرضيّة الفصل بين طاولته وطاولة زميله عبدالرحمن ، أسرعتُ تجاهه ووضعت يدي على جبهتهِ ؛ لأكتشف درجة حرارته ، فقد كانت مرتفعة و السعال يخنق أنفاسه ، جذبته من يديه لخارج الفصل ، مستغيثة بالطاقم الإداري ؛ كي يأخذوه لدورة المياة لتنظيفه مما حلّ به ، وطلبتُ من المرشدة الصحية بعدها أن تقيس درجة حرارته .

عدتُ للفصل والطلبة مشمئزين من رائحة الفصل وما حلّ به ، خرجتُ مرة أخرى لأحل المشكلة ، أبحث عن عاملات النظافة طالبةً منهن مساعدتي لتنظيف الفصل.

بين تنظيف الفصل وتهدئة الوضع وإعادة كل طالب بمكانه وقطع الاتصال بينه وبين زميله والتركيز على اخراج كتاب لُغتي وفرض الهدوء والصمت ؛ لبدء درسنا ، كان نصف الوقت قد رحل ولم يتبقى لي سوى القليل ، ورحلت معه أحلامي بتأديّة درس مثالي متكامل .

على نهاية الدرس فُتح باب الفصل لإعادة مصطفى لمكانه ، نظرت إليه باشفاق عند دخوله مُمسكاً بيد المرشدة الطلابية ..

اندفعت إليه قائلة باشفاق : هل أنت بخير..؟

انزوى مصطفى خلف المرشدة بعد سؤالي وكأنه يتحرج من الرد ، بينما جاء الرد من المرشدة ، قائلة: لن يجيبك لأنه لا يتحدث العربية..!

نظرت لها باستنكار قائلة: لماذا ، أليس عربياً ..؟

قالت : بلى عربياً من الجالية العربية ولكنه يتحدث اللغة الإنجليزية.

تركت المرشدة الطلابية يدهُ ليعود مكانه وبالمقابل أخذت بيدي ، قائلة: بعد الحصة تعالي لاطلعك على موضوع مصطفى ، وخرجت من الفصل و ثارت معها حيرتي وشكوكي من غموض هذا الطفل.

توجهت بعد الحصة لحجرة المرشدة الطلابية ، وما إن رأتني طلبت مني التوجه معها لحجرة الوكيلة ، عند دخولنا ابتسمت الوكيلة طالبة مني الجلوس على جانب مكتبها ، قائلةً أهلاً بكن: ما الموضوع..؟!

المرشدة الطلابية : لا شيء ، أُريد أن أُطلع معلمة لُغتي على وضع الطالب مصطفى..

الوكيلة ضاحكةً: مصطفى حكايتهُ حكاية غريبة..!

قلتُ : إذاً أطلعوني عليها..

المرشدة: هذا الطالب كان في دولة أجنبية ورغم أنه من أسرة عربية لكن للأسف كانوا يتحدثون فيما بينهم اللغة الإنجليزية ، حتى داخل نطاق الأسرة ، فتربى مصطفي لا يعلم من اللغة العربية شيء..

قلتُ : إذاً لا تناسبه مدارس التعليم العام وعليه أن ينتقل إلى مدرسة عالمية..!

الوكيلة: هذا ما أخبرنا به الأم ، ولكنها أصرت على وجوده هُنا ؛ كي يتسنى له تعلم اللغة العربية على أصولها ويتمكن من نطقها واتقانها مع طلبة المدرسة.

المرشدة : ومن خلال الشهر السابق منذُ بدء الدراسة ، وجدنا مصطفى تائه بين زملائه في الفصل ومشتت خارج الفصل ومحتار بين مرافق المدرسة ، فاقد وسيلة الاتصال بينه وبين من حوله بسبب عائق اللغة .

قلتُ لهما : مالحل إذاً..؟!

الوكيلة : عليك أنتِ كمعلمة ومؤسسة مادة اللغة العربية التعامل مع هذه المشكلة وحلها بالإضافة إلى كونك رائدة هذا الفصل ومربيته من الآن.

قلتُ بصوت مرتفع : لا حول ولا قوة إلا بالله ، كيف ذلك ، مهام جديدة على أعباء سابقة ..؟!

الوكيلة بابتسامتها المعهودة تُربّت على كتفي قائلة: أنتِ كُفئ لهذه المهمة ، والكُرةُ بملعبك.

اكتشفت بعدها أنني أنا فقط بمفردي ، بملعب كبير أشكل فيه فريق مكون من أحد عشر لاعباً بمدربه وطاقمه الإداري والمشجعين ، ضد فريق مكون من أربعين طالب.

فمن وجهة النظر الصائبة ، من الذي سيفوز في هذه المباراة..؟!

يا لسخرية الحياة..!