انتقلت للفصل الآخر بعد فراغي من الفصل الأول ، قرعتُ الباب ودخلتُ مُلقية عليهم السلام ، كان الوضع هادئاً على غير العادة و فارغ من مجموعة من الطلبة.

لكن لفت انتباهي وجود حقائب على الكراسي وأدوات على الطاولات ، سألت بعدها مباشرة الطلبة بفضول كبير قائلة : لا يوجد اليوم غياب داخل الفصل ، إذاً أين البقيّة.

أجاب على سؤالي نواف قائلاً : أخذتهم المعلمة معها.

وأردف إبراهيم قائلاً : لقد تعاركوا فيما بينهم وأخذتهم معلمة العلوم للمرشدة لتُعاقبهم.

قلتُ : من منهم.

رد فؤاد ساخراً وملوحاً بيدهِ بعد أن رفعها وفتحها ثم توجه بها لي : كل عبدالرحمن ، داخل الفصل.

تداركت وقتها إن هذا الفصل به خمسة طلابٍ تحت اسم عبدالرحمن ، وهذا ما جعل التفريق بينهم معقداً كثيراً.

وما أن أكملتُ حديث نفسي حتى فُتح الباب من قبل إحدى إداريات المدرسة وفي حوزتها – كل عبدالرحمن- كما قال فؤاد .

كانت الإدارية حريصة على كل الطلبة المُشاركين في المعركة الدخول للفصل بكل أدبٍ وهدوء .

ولفت نظري ندائها بألقابهم الأخيرة ، قائلة لي (بعد أن أطلقت تنهيدة حرى من صدرها أخرجت معها كل ما كُبت به من أفعال هؤلاء الصبيّة المشاكسون) : المعذرة يا أستاذة يجب أن أُفرق بينهم بالألقاب فعبد الرحمن كُثر بهذا الفصل.

لمعت في ذهني طريقتها بتمييز الأسماء ، كان حلاً رائعاً يخرجني من عقدة تكرار الاسم.

سألتها : ما الذي حل بهم .

قالت : كالعادة هذا يستفز والآخر يضرب وذاك يفزعُ بالمشاركة والبقيّة يشجعون و كأننا في حلبة مصارعة لا حجرة فصلٍ.

أغلقتْ الإدارية الباب ، وبقوة ألتفتُ لهم باحثةً عن مصارعين ( WWE ) القدامى -ستيف أوستن ، أندرتيكر ، هالك هوجن – فعهدي توقف عند مصارعة الثمانينات الميلادية.

كان عبد الرحمن رقم (١) متأبط الشر ملتحف الغضب ، يجلس على كرسيه متأهباً لدخول معركة أخرى ، ملامحه تُشير إلى ذلك ، وهيئة ملابسه أكّدتْ ضنوني ، فقد كفكف كُميّ ثوبهُ وشمّر عن ذراعيه ، رافعاً طرف ثوبه السفليّ مثنياً على بطنه ، ومن التشريح المبدئي له تبين أن هناك جُرحٌ عميق بجبهته بجانب حاجبه الأيسر مُغطى بقطعةٍ من القطن ولصق جروح ، كما أتضح أن هناك زحفٌ قديم ممتد من مرفق يده اليمنى متجهاً لأسفل الكف قد شفي بعضه والبعض الآخر تعرض لاحتكاك آخر ؛ أغارت الدماء به.

قُلت في نفسي هذا هو المصارع الأعظم ، توجهتُ له بالسؤال بشكل لطيف أتقي حنقهُ و امتص غضبه قائلة : هل تلعب خارج المنزل بالكرة كثيراً يا عبدالرحمن.

رد منفعلاً قائلاً : نعم يا أستاذه.

قلتُ : أين تسكن ..؟

قال لي : بالحي (….)

عند نطقه باسم الحي الذي يسكنه أدركتُ وقتها سبب هذه الشخصية العصبية الثائرة الغاضبة العنيفة ، فقد تربى منذُ الصغر في حيّ شعبي ، منازله لا تتعدى الغرفتين فقط ، لذا تلجأ الأمهات لاخراج أطفالهن من البيت الصغير طيلة النهار ؛ لينعم المنزل بوقت هدوء نهاراً ، وتتمكن من ترتيب المنزل الصغير وطهي وجبة الغذاء بدون فوضى ..

ليعودوا الأطفال قرابة المساء متهالكين من اللعب لينتهي يومهم بعد تناول وجبتهم بالنوم ، بعد نهار حافل داخل الحيّ الشعبي..

فكان عبدالرحمن رقم (١) نِتاج تربية الحي بكل عنفوانه ، فالبقاء للأقوى خارج البيت في ذلك الحيّ الشعبي ، الذي يولدون أطفالهُ شباباً كمصارعين ، العراك هو الفيصل بعد انتهاء كل لعبة ، فمنهم من يعود مفتوح الجبين بجرح غائر ، والآخر بعين متورمة فقد أخذ نصيبة من اللكمات الشيء الكثير ، والبعض مُمزّق الثياب ، وهناك من أختفت ملامحهُ و اتسخت بتراب الأرض..

ثم تحول نظري للعنصر الثاني عبدالرحمن رقم (٢) ، وجدته يجهش مختنقاً ببكائهِ يحاول السيطرة على نفسه ، ذو هيئة أنيقة ، بجلسة خجولة ، بها الكثير من التوتر ، حقيبتهُ المرتبة وطاولتهُ النظيفة ، تدل على شخصيّة تربّت على النظام ، وبملاحظة وسؤال خاطف قلتُ له: عبدالرحمن لا تحبس دموعك ، أطلقها ، ما الذي أزعجك..؟!
وضع رأسهُ بعدها على الطاولة وأجهش بالبكاء ، اقتربتُ منه ومسحتُ على رأسه قائلة له ، لا بأس يا عبدالرحمن ، مثلما يحدث الشجار بين الأخوة بالمنزل ، يحدث أيضاً هنا داخل الفصل ، فأنتم مثل الأخوة.

استنتجتُ بعدها أن مثل هذه الشخصية تربت بعناية وحرص شديدين ، مما جعلها شخصية حساسة لا تحتمل الكلام الجارح والتصرفات العنيفة ، واستخلصتُ أنهُ الحلقة الأضعف وضحيّة هذا الشجار.

تداركتُ نفسي سريعاً ونفضتُ مخيلتي المحلّقة ؛ حتى لا يطير الوقت بجناحيه ويطير معها درس اليوم ، شرعتُ مسرعة لأبدأ الحصة.

مكررة في عقلي : لبناء ثقتك بنفسك ‏إقرأ روحك بعمق والواقع بحرفيّة ‏والآخرين بتفرّس.