ماذا لو كان تدمير البيئة يرتبط أساساً بالأزمة الاجتماعية في العالم؟ في الواقع، إن من يمتلكون المفاتيح السياسية والمالية هم أيضاً المحرك الأساس لنظام أو نمط الاستهلاك المفرط، وهم أيضاً المخربون الذين يدمرون الكرة الأرضية.

لكن هناك أيضاً في الطبقات المتوسطة من يحذو حذوهم ويسير على خطاهم. وإذا كان الجالسون في القمة يراهنون على تراجع النمو. فإن المحافظة على الأرض تحتاج إلى المزيد من المساواة بين البشر.

يقول هيرفيه كمبف: الأجيال الثلاثة أو الأربعة القادمة والواقعة عند منعطف الألف الثالث هي الأولى في التاريخ، تاريخ البشرية، التي تصطدم بحدود المحيط الحيوي. وهذا التلاقي أو التصادم لا يتم بشكل متناسق، بل بشكل أزمة بيئية كبرى.

تجدر الإشارة هنا إلى بعض أشكال التصادم، فأولها هو القلق الذي يساور حديثاً المختصين في علم المناخ: فهم يبرهنون منذ بضع سنوات على فرضية عدم إمكان عكس التغييرات المناخية. وحتى الآن، يعتقد أن التسخين التدريجي قد يحدث، لكن عندما تشعر البشرية بخطورة الوضع، فمن الممكن حفظ خط الرجعة والعودة إلى التوازن المناخي. ويقول لنا علماء المناخ إنه من الممكن بلوغ عتبة كالتالي ينزلق فيها النظام المناخي نحو فوضى لا يمكن عكسها أو الرجوع عنها أو ترميمها. وثمة سلاسل كثيرة من الملاحظات والترصدات تغذي هذا القلق.

ثمة ملاحظة ثانية، وهي أن الأزمة البيئية لا تقف عند حدود التغير المناخي، فهذه الظاهرة هي المعروفة أكثر من غيرها لدى العامة، وهي ليست إلا جزءاً من الأزمة الكلية، فثمة ظاهرة أخرى لها الأهمية نفسها دون شك: وهي تراجع التنوع البيولوجي، والذي لا نعرف مدى خطره إلا من خلال حديث الاختصاصيين، الذين يتحدثون عن ((أزمة الانقراض السادسة))) في إشارة إلى الزوال المتسارع لأنواع تخضع في عصرنا للاختبارات، أما ((أزمة الانقراض الخامسة)) فقد حدثت منذ 65 مليون سنة، عندما انقرضت الديناصورات.

وربما كانت الظاهرة الثالثة هي الأقل بروزاً من سابقتيها أو لم تلق التحليل الكافي، الذي لقيته مسألة التغير المناخي وهي: التلوث الكيميائي الذي عمّ بيئتنا، وله مظهران مثيران للقلق خاصة، فمن ناحية أولى، إن السلاسل الغذائية أصبحت ملوثة بجرعات صغيرة جداً من الملوثات الكيميائية.

ومن ناحية ثانية، يزداد وضوحاً أكثر فأكثر أن النظام البيئي على سطح الكرة الأرضية في معظمه، ومجموع المحيطات التي يعتقد المرء أن قدرتها على تجديد نفسها قدرة غير محدودة تقريباً، يزدادان ضعفاً أكثر فأكثر، إما بسبب التلوث وإما بسبب تدهورهذا النظام البيئي الخاص أوذاك.

إن ناقوس الخطر لم يقرع اليوم ولا أمس القريب، بل منذ عدة عقود، حيث تم تحذير مجتمعنا من الخطر الداهم. فمنذ أن انطلقت تحذيرات راشيل كارسون في مؤلَّف ((الربيع الصامت)) في العام 1962 طرحت المسألة البيئية، لا سيما منذ السبعينيات، وبشكل قوي لدى الجدل العام ولدى المؤتمرات الدولية، ومن خلال المقالات العلمية، والصراعات البيئية عملت منذ ذلك الحين على تجميع كم هائل من المعارف والمعلومات تؤكد دائما التوجهات العامة.

لماذا إذن لا تتوجه مجتمعاتنا فعلاً نحو السياسات، التي قد تتيح لها تجنب تعميق الأزمة البيئية وتوسيعها؟ إنها المسألة الجوهرية.

منذ نحو عشرين سنة، اتصفت الرأسمالية بعودة الفقر إلى البلدان الغنية ، وتوقف في البلدان الغربية تراجع معدل الفقر، الذي استمر منذ نهاية الأربعينيات، بل انعكس الوضع في بعض الحالات ، حتى إن عدد الأشخاص الذين يمرون بأوضاع عارضة، أي يقعون فوق خط الفقر بقليل، قد تزايد أيضاً بشكل منتظم.

ومن ناحية ثانية، وعلى المستوى العالمي، فإن عدد الأشخاص الذي يعانون فقراً مدقعاً، أي الذين لا تبلغ دخولهم الدولارين يومياً، قد ازداد أيضاً بشكل منتظم حتى بلغ ملياري إنسان، في حين أن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تقدر عدد الأشخاص الذين يعانون فقراً أو سوءاً في التغذية بـ820 مليون إنسان.

إن من الجوهري الاهتمام بالطريقة الملموسة، التي يستخدم فيها الأغنياء المفرطو الثروات أموالهم، فهذه الأموال لم تعد تخبأ كما كان يحدث في زمن البرجوازية البروتستانتية الصارمة التي تحدث عنها ماكس ويبر: فالمال على العكس، يستخدم في تغذية الاستهلاك المفرط لليخوت والطائرات الخاصة، والقصور الباذخة والجواهر والساعات والرحلات الغريبة العجيبة المكلفة وخليطاً براقاً من البذخ والإسراف المفرط.

لماذا يعد ذلك محركاً للأزمة البيئية؟ لكي ندرك ذلك، علينا الالتفات نحو الاقتصادي الكبير تورستان فيبلن، الذي وضع أفكاره ريمون آرون في مصاف أفكار كارل فون كلاوزفيتر أو ألكسي توكفيل، وهذه الأفكار التي طواها النسيان اليوم لا تزال باقية بإصرار حتى الآن.

لنختصر إذن تلك الأفكار في أقصى توجهاتها، فماذا كان يقول فيبلن؟ إن التوجه نحو التنافس يتلاءم مع الطبيعة البشرية، وكل واحد منا لديه ميل إلى مقارنة نفسه بالآخرين، ويسعى إلى تحقيق تفوق بسيط أو اختلاف رمزي بالنسبة للأشخاص، الذين يعيشون حوله مستخدماً هذه السمة الخارجية أو تلك.

فضلاً عما سبق، يرى فيبلن أن كل المجتمعات تفرز بسهولة كافية الثروة اللازمة لتلبية حاجاتها من الغذاء والسكن وتعليم الأطفال بيد أنها تفرز عموماً كمية من الثروة، تفوق كثيراً ما يسد تلك الاحتياجات، فلماذا؟ لأن ذلك يعني إتاحة المجال لعناصر ليتمايز بعضهم عن الآخر.

وهكذا يؤكد فيبلن بعد ذلك أن هناك غالباً العديد من الطبقات في المجتمع، ويحكم كل طبقة منها مبدأ التنافس التفاخري.

فمن الذي سيقلص استهلاكه المادي؟ تشير التقديرات إلى أن نسبة 20 إلى 30 في المائة من سكان العالم تستهلك نحو 70 إلى 80 في المائة من الموارد المأخوذة كل سنة من البيوسفير (المحيط الحيوي الذي يحيا فيه الإنسان).

إذن يجب على التغيير أن يحدث على أيدي هؤلاء، وهذا يعني في الأساس، سكان أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان. ففي هذه المجتمعات المتطورة يجب أن تطرح مسألة تقليص الاستهلاك المادي، وليس بين مجتمعات الفقراء وذوي الأجور المتواضعة، لكن ليس المطلوب من الأغنياء غنى فاحشاً أن يقدموا وحدهم على تقليص الاستهلاك. فإن أعدادهم غير كافية لإحداث تغيير كاف في التأثير البيئي الجماعي، ذلك أن مجموع طبقات الشعب المتوسطة في الغرب يجب عليها تقليص استهلاكها المادي والحد منه.

إن اقتراح تخفيض الاستهلاك المادي قد يبدو مشجعاً على الصعيد الأيديولوجي الذي يحيط بنا من كل جانب، لكن اليوم، لم تعد زيادة الاستهلاك المادي الإجمالي تترافق بزيادة الرفاهية الجماعية. فهي تؤدي على العكس، إلى تراجع تلك الرفاهية. والتحضر الراغب في تقليص الاستهلاك المادي سيجد، من ناحية ثانية، أن الباب يفتح أمام سياسات أخرى.

وهذا يعني تجديد الاقتصاد من خلال فكرة المنفعة البشرية العامة بدلاً من وسواس الإنتاج المادي، ومن خلال تشجيع الرابط الاجتماعي بدلاً من إشباع الرغبات الفردية. وإزاء الأزمة البيئية، علينا اتباع طريق الاستهلاك الأقل للوصول إلى توزيع أفضل بغية العيش معاً بشكل أفضل بدلاً من أن نستهلك الكثير وحدنا.