إن من أندر الحالات في عالم المعرفة, ما قام به القس الكاثوليكي, أستاذ اللغة العربية في جامعة مدريد ميجيل آسين في كتابه المثير للجدل (أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية) والذي أماط فيه اللثام عن أوجه الشبه الكبيرة بين قصة الإسراء والمعراج في العلوم الإسلامية وبين الأثر الأدبي الأوروبي الشهير (الكوميديا الإلهية) لدانتي ألييجري الشاعر الإيطالي, إضافة لعقده مقارنة بين رسالة الغفران لأبي العلاء المعري وكوميديا دانتي, شارحا فيها تأثر دانتي واطلاعه العميق على رسالة الغفران, ومؤكدا بذلك العلاقة الوثيقة بين العملين.
وتعد كوميديا دانتي أهم أثر أدبي أنتجته أوروبا في القرون الوسطى, وأحد أبرز الملاحم الشعرية في القارة الأوربية, فمع ما تحظى به هذه الملحمة الشعرية من مكانة فإن زعزعة اليقين حولها وإثارة الشكوك في المصادر الملهمة لكاتبها كان بمثابة نكش لعش الدبابير, وهو ما تجرأ عليه القس الأسباني ميجيل آسين, وطرحه بلا خوف أو مواربة, وهي شجاعة علمية تستحق الاحترام.
فقد كان الدانتيون يدعون أن كوميديا دانتي من ابتكار الشاعر ومن نتاج قريحته, وهو أمر لم يقبله ميجيل آسين الذي قضى 25 عاما في دراسة القضية, ليثبت في كتابه أن كوميديا دانتي مستقاة من حيث هندستها وكثير من تفصيلاتها من التراث العربي وبالأخص من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري.
أحدث الكتاب هزة عنيفة بين نقاد الأدب, محدثا بذلك جرحا غائرا في كبرياء الدانتيين الذين عاشوا قرونا طويلة وهم يحملون يقينا لا يعتريه شك بريادة شاعرهم وأسبقيته, ولم يعترفوا إلا على مضض بأن الأصول الإسلامية عموما ورسالة الغفران خصوصا كانت هي الأساس الذي بنى عليه دانتي ملحمته الشعرية.
تضاربت أراء النقاد العرب تجاه مجمل أفكار الكتاب, فقد زعم لويس عوض بأن أكبر مؤثرين في بناء الكوميديا هما قصة المعراج ورسالة الغفران لأن وجه الشبه بينهما وبين الكوميديا أوضح ما يمكن أن ينسب إلى محض المصادفة أو توارد الخواطر بين الشعراء.
غير أن عائشة عبدالرحمن المعروفة بلقب (بنت الشاطئ) قد شككت في قيمة الكتاب وأفكاره وهاجمته هجوما لاذعا, ففي كتابها الغفران قد أنكرت أي صلة لدانتي بالأدب الإسلامي عموما, بل أنها أتهمت القس الأسباني, واصفة إياه بالتعصب لمفكري الإسلام ضد دانتي, وقالت بكل غرابة أن ميجيل آسين يريد أن يطالب لوطنه أسبانيا بنصيب من المجد والفخر الذي حققه دانتي في ملحمته الشعرية.
لا أجد داعيا لإنكار تأثر الكوميديا بأعمال سابقة, فمن المستحيل أن تنشأ أفكار الملحمة الدانتية في عقل مؤلفها بمحض الصدفة, بل يلزم وجود حلقة وصل, وهذه الحلقة واضحة جلية في التراث العربي ولا يمكن إنكارها.
التعليقات
اترك تعليقاً