توفيت والدته وهو لا يزال يتعثر بخطواته، فنشأ في كنف زوجة أبيه التي لم يتحرك قلبها شفقة عليه؛ فذاق صنوف العذاب النفسي والقسوة، وفوق مجاعة ذاك الزمان ذاق جوع الحرمان من الطعام الذي بالكاد يتواجد على موائد لا تقتات حشراتها.
ذات يوم بلغ به الجوع كل مبلغ فلجأ إلى نخلة مثمرة في حائط والده وقطع منها بضع تمرات، وتنحّى جانباً فأكل وشرب من الماء الذي يسقي الأشجار وأخفى بقايا التمرات في حُفرة حتى لا يراها والده. ولم يعلم أن زوجة أبيه تراقبه، فأخبرت والده بذلك، وكأنه لم يُصدّق في البداية، ولكنه رأى آثار الجريمة وأية جريمة!
فنام قُرب حوض النخلة يحرسُها من ابنه وكأنّه يحرسها من مجرم، فلم يتمكن الابن من سرقة حصته من غذاء يومه لوجود والده، ولكن الجوع أقوى من الخوف فقرر اقتحام النخلة ولما اقترب منها انتبه له والده فأمسك به وأخذ يضربه ويعنّفه، فأخبر والده أنه أمضى عدة أيام كان طعامه الماء فقط، ولكن قلب الوالد لم يَلِنْ على ابنه بعد أن كَرِهَتْه زوجته ويَا لَصدق المثل الشعبي الذي يقول (غلَى الصبي من غلى أمه)، فهرب الفتى وآثار ضربات والده تُدمِي قلبَه، وهامَ على وجههِ يتعثَّرُ بخطواته في ليلِ القريةِ البهيم.
وحينما أدركه الصباح رأى قافلةً تستعد للرحيل، فذهبَ إليهم وناشدهم بأن يذهب معهم ولكنهم طردوه، فلا أحد يرغب في تحمل مسؤولية فتى هارب، ولكن مع إلحاحه أخذوه معهم، وأصبح يخدمهم، وكانت القافلة تنوي السفر لفلسطين ضمن رحلات العقيلات الشهيرة في ذاك الزمان، وبعد وصولهم هناك أرسلوه لشراء الخبز، فوجد صفاً ينتظر الخبز ووقف معهم، وشاء الله أن يتشاجر مع أحد الصبية الواقفين، فرماه صاحبنا بحجر وسقط الصبي الفلسطيني مضرجاً بدمائه، وحضرت الشرطة واقتادوه للسجن، وفي السجن رأته امرأة انجليزية كانت مسجونة فعطفت عليه، وحينما أمرت الشرطة بالإفراج عن الإنجليزية دفعت للشاب الغرامة المقررة عليه وتم الإفراج عنه، وسألته المرأة أين سيذهب، ولكن دموعه أجابت عنه، فهو لا يدري أين سيذهب وكيف سيتصرف، فعرضت عليه السفر معها إلى بريطانيا، وهناك عاملته كأم، وأدخلته المدارس حتى أصبح طياراً مدنياً، وذات رحلة جوية لفت نظره رجلاً مسناً عرفه صاحبنا والرجل له منكر، واستغرب من نظراته المتكررة، فقال لمن حوله حينما شكوا أنه يعرفه، هذا (الحمر العطر) من أين يعرفني، فأجابه الطيار: مساك الله بالخير يافلان!
ألست أنت الشيخ فلان رئيس حملة العقيلات التي كانت متجهة لفلسطين قبل سنوات تجاوزت الأربعة عقود؟ قال: بلى، فقال له: أنا فلان(وكانوا قد اطلقوا عليه لقباً ساخراً لعدم معرفتهم باسمه)، فتبادلا التحية، وعلم من الشيخ أن والده قد تُوفي، وأن زوجة أبيه لا تزال على قيد الحياة، فبعث لها نقوداً كهدية، وقال للشيخ العجوز ـ الذي استغرب وفاءه لسيدة كانت تقسو عليه ـ: لولا الله ثم قسوتها لما وصلت إلى ما وصلت إليه.
هذه الحكاية رواها العم «صالح البراك» وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، وفيها رسالة عظيمة لشكر المصاعب التي مرت بنا وكل أمر نكرهه، لأننا لا ندري أنه خير لنا، «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».
التعليقات
ما أعظم ما يختاره الله للإنسان..!!..
تتوالى المصائب ويأتي فرج الله ويزيحها كما يزيح النهار الليل.
ممتازة القصة
اترك تعليقاً