لقد خلق الله تعالى الإنسان لعبادته سبحانه، واستخلاف الإنسان في الأرض ومعاشه فيها قائم على تلك العبودية؛ فهو عبد لله تعالى بموجب ربوبيته اضطراراً، وعبدٌ له بموجب ألوهيته اختيارا، وقوام حياته لا يكون إلا بالاستسلام لأمره سبحانه. والعبودية الاختيارية لا تكون إلا بالاستسلام لله تعالى بالتوحيد والتشريع، مما يقتضي أن تكون كل تصرفات الإنسان في هذا الحياة الدنيا خاضعة له سبحانه تقرباً وتعظيماً، قال تعالى: (قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) [الأنعام: 162].

وقد وضع عز وجل للمسلم نُظُماً لمختلف جوانب حياته، يتحقق بها مقاصد الشريعة الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض أو النسل. وأعظم تلك المقاصد وأهمها وهو: حفظ الدين؛ لأنه أساس تحقيق العبودية، وعند التطبيق يشترط ألا يقدم أي من تلك المقصد على حفظ هذا المقصد. ولا يشك ذو عقل وبصيرة في أهمية الزواج في بناء نظام الأسرة الذي هو من أهم النظم الإسلامية؛ إذ أنه الوسيلة الأهم التي تتحقق بها مقاصد الشريعة في هذا النظام، لذلك لابد من حسن الاختيار للزوج والزوجة، وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لأسس الاختيار.

فبعد أن عدد صلى الله عليه وسلم الأسباب التي يقوم عليها الاختيار وجه الرجال لاختيار ذات الدين بقوله: (تنكح المرأة على إحدى خصال ثلاث: تنكح المرأة على مالها، وتنكح المرأة على جمالها، وتنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك).

ووجه صلى الله عليه وسلم ولي المرأة لاختيار الزوج المرضي الدين والخلق بقوله: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد»، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، قالها ثلاث مرات).

فعلى الرغم من أن الأخلاق جزء من الدين إلا أنه صلى الله عليه وسلم خصها بالذكر باعتبار أن الأخلاق منها ما هو فطري جبلي، وما هو من مقتضي الدين؛ فقد يكون المرء ذا دين لكنه جلف أو فظ أو بخيل، وقد يكون ممن لم يحقق كمال الإيمان بكمال شعبه والتي منها الأخلاق، والتي دلت النصوص على أنها من الإيمان، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

فالحياء خلق عظيم عده صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان مما يدل على أن الأخلاق من الإيمان.

ويتضح مما سبق أن تحقيق مقصد حفظ الدين بحسن اختيار الأزواج له ثلاث مقامات:
المقام الأول: حفظ أصل الدين. والمقام الثاني: حفظ قوام الدين. والمقام الثالث: السعي لعلو الدين.

فأما مقام حفظ الدين فإن الشريعة قيدت قيام الزواج على أساس الإسلام فقد قال تعالى: (وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُون) [البقرة: 221]، وكل من جاء النص على كفره كفرا أكبر سواء كان من عبدة الأوثان أو من أهل الكتاب فهو كافر، ولا شك في كفر اليهود والنصارى، والتفصيل في كفرهم يطول وليس هذا مقام بسطه، وإنكار كفرهم تكذيب لله ورسوله.

والاستثناء للرجال دون النساء في جواز الزواج من الكتابيات أمر لا شك فيه لدلالة النص على ذلك، فقد قال تعالى: (ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ) [المائدة: 5]، ويكفينا في هذا المقام أن نقول أن الزواج من الكتابية قد قُيد بشروط، فلا يعدل المسلم عن الزواج من المسلمة إلى الزواج من الكتابية ابتداءً، ولا يحل له إن اضطر للزواج من الكتابية أن يتزوج من غير المحصنات لقوله تبارك وتعالى: (ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) [النور: 3]، مما يدل على أن شرط الإحصان أساس مطلق في الزواج.

وأما مقام حفظ قوام الدين، والذي لا يكون إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته؛ فيخرج من هذا المقام كل مبتدع خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: (وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). ( ) وذلك لأن البدعة تناقض الإسلام أو تستلزم القدح فيه، ويستلزم منها نقص الخالق أو نقص الرسول أو الصحابة حملة الشريعة، وقد كان السلف ينهون عن مجالسة أهل الأهواء مما يلزم منه إبعادهم، والمصاهرة فيها تقريب وصلة ومودة وهي أولى بالمنع من مجرد المجالسة. فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب”. وقال قال أبو الجوزاء يرحمه الله تعالى: “لأن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إليَّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء، وقد دخلوا في هذه الآية: (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) [آل عمران: 119].

وأما مقام السعي لعلو الدين فهو مقام كمال شعب الإيمان وهو أعلاها وأعظمها، لكنه على مراتب، وتمام تلك المراتب ليس مطلب في الزواج لكنه من تمام الخير والفضل والإحسان.

ويعلم من ذلك أن المقامين الأول والثاني هي المقامات الأصلية التي لابد من الحرص عليها عند اختيار الأزواج. وأن أهم معايير الكفاءة عند اختيار الزوج والزوجة العفة وصحة الديانة.

وجواز زواج المسلم من الكتابية فيه دلالة على جواز زواجه من المبتدعة، وهذا مبني على أصل قوامة الرجل على زوجته الوارد في قوله تعالى: (ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا) [النساء: 34]، وقوامة الرجل تكليفية تضم جانبين: الأول حفظ المرأة من الاعوجاج والانحراف فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر.

والثاني توفير احتياجاتها ونفقتها؛ فعليه أن يلزمها بحقوق الله تعالى بالمحافظة على ما افترضه، ومنعها من كل فساد وإظهارها للكفر والبدعة في بيته من أعظم الفساد. وعلى ذلك فإن من لا يستطيع القيام بدوره في تقويم اعوجاج زوجته ويمنعها من إظهار شركها أو بدعتها ليس له أن يتزوج من كتابية ولا مبتدعة؛ فالقوامة مقام عظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما المرأة فليس لها غالباً القدرة على تسيير زوجها ومنعه من معصية أو بدعة، والناظر في الواقع الموضوعي يجد أن سيكولوجية المرأة تختلف عن الرجل، فإذا استبعدنا المؤثرات البيئية والاجتماعية نجد أن طبيعة المرأة الجسدية والنفسية متمركز حول وظيفتها كزوجة وأم؛ فطبيعة المرأة المتمركزة حول ذاتها ناتجة عن تمركز جسدها على دورها كزوجة وأم، ولغلبة الصبغة العاطفية عليها والتي تؤثر على أحكامها العقلية بل وحتى حدسها وفراستها. كما أن سعادة المرأة لا تتحقق إلا من خلال إخلاصها وتضحيتها بما يمليه عليها شعورها بالمركزية الذاتية البارزة في علو الأنا، وذلك من خلال حسن تبعلها لزوجها وتواضعها له؛ فهي كزوجة تسعى لنيل حب زوجها بجانبيه الجسدي والروحي.

وعلى ذلك فإنه لا يجوز لولي المرأة التهاون في جانب الدين عند اختياره الزوج المناسب لابنته أو أخت وغيرها ممن هن تحت ولايته، فلا يزوجها لمبتدع معلوم البدعة أو من غلب الظن أنه صاحب بدعة بناء على بيئته التي غلب عليها ظهور البدعة وانتشارها، وأن يحرص على أن ينتقي ممن تقدم لها أحسنهم خلقاً. فالزواج ليس اضطرار لحفظ العرض أو للحصول على النسل، بل هو عملية بنائية تقوم على الاختيار لصلاح الفرد والمجتمع، والذي لا يكون إلا بالتسليم لله تعالى وطاعته بتفعيل أوامره الشرعية كمقاييس معيارية لاختيار الزوج والزوجة، والمرأة وإن كانت في زماننا هذا قد على شأنها علميا واجتماعيا وماديا إلا أنها يجب أن تلتفت للتكافؤ في الدين قبل غيره من أمور مادية أخرى، ويشرف بها البقاء في بيت أهلها دون زواج عند عدم وجود من يكافئها في دينها على أن تلقي بنفسها بين يدي مبتدع فتكون عرضةً لتضييع دينها ودين ذريتها.