الحمد لله الذي عقب الأمر بشكره.

بشكرِ الوالدين فقال سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}. وأمر بالإحسان إليهما فقال سبحانه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.
والصلاة والسلام على سيد الأبرار وأفضل الأخيار نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار.

أما بعد:

فإن الوقت المحدود هو ذلك الوقت الذي تعيشه مع أبيك في هذه الدنيا، ثم يرحل عنك، هنا تتوقف الكلمات، وتتبدد الأحلام، وتنتهي مرحلة مشرقة من حياتك، فيها من الطمأنينة والسكينة الشيء الكثير؛ لتبدأ مرحلة من الضياع والغربة بكل مفرداتها.

‏‎لَاخَيرَ بَعْدَكَ فِي الحَيَاةِ وإِنَّمَا
أَبْكِي مَخَافَةَ أنْ تَطُولَ حَيَاتِي

في يوم رحيله سيولد اليتم في أعماقك، وتشعر بمرارته، ولا تستوعب حواسك أن كلمة (أبي) قد لفها الثرى، وأنك غير قادر على رؤيته وسماع صوته، والتغني بمناداته والتلذذ ببره والارتشاف من معين توجيهه وسمته مرة أخرى.

في تلك اللحظة الصادقة التي ستخلو فيها مع نفسك في حديث سري شجي، وحوار داخلى صفي، فيه الكثير من الإفضاء والإفشاء والإعتراف والطرح الصريح الذي يسوده الحزن، ويعتصره الألم، وتطغى عليه مشاعر الأسى والندم، في هذه اللحظة ستعلم حجم التقصير، ومقدار التفريط، فتدرك حجم النعمة التي كنت ترفل فيها، والكنز الذي كان بين يديك، والنور الضافي الذي كان دليلا لناظريك، حين ذهبت الفرصة وبقي الألم، ولات ساعة مندم.
‏‎
أبتاهُ فَقْدُكَ مُوجِعٌ أعياني
وأقضَّ جَفْني والأسَى يَغْشَاني

وَأذَاقَ قَلْبِي مِنْ كُؤُوسِ مَرَارَةٍ
في بَحْرِ حُزْنٍ مِنُ بُكَايَ رَمَانِي

سيمر عليك شريط الذكريات المؤلمة، كأنها ومضة من بريق، أو خطوة من طريق، وستسترجع تلك الأحداث التي مرت عليك معه بكل تفاصيلها ومنحنياتها، وبكل مافيها من صور العقوق، وقصور البر، وتفويت الفرص.

ستذكر تلك الأيام التي تخليتَ عنه في وقت كان هو بحاجة إليك، وإلى مساعدتك، والوقوف بجانبه، وتلبية رغباته وطلباته، وخاصة عند الكبر..!

ستذكر تلك القرارات الخاطئة التي أقدمت على اتخاذها؛ ولم تعتد برأيه، أو تأخذ بمشورته، سواء في تعليم أو وظيفة أو زواج أو طلاق أو سفر أو نحو ذلك..!

ستذكر تلك اللحظة التي قمت بذمه، والقدح به، وذكر معايبه عند الناس، تبريرًا لفشلك، بسبب أخفاقك في الدراسة أو عملك، وإلقائك باللائمة والتبعية عليه، بأنه هو الذي أهملك ولم يربك كما ينبغي، وأنه هو من أفسد عليك حياتك، وحطم مستقبلك، إلى غير ذلك من ألوان القدح..!

ستذكر تلك المواقف التي جلبتَ له الهم والغم، وشوهتَ سمعتَهُ عند الناس؛ بإقترافك للأعمال السيئة، والأفعال الدنيئة التي تُخلّ بالشرف، وتخرم المروءة، وربما قادتكَ إلى السجن والفضيحة..!

ستذكر ذلك التشكي وتلك النظرات التي وقفتها متأففًا ومتضجرًا لأوآمره..!

ستذكر كم أعرضتَ عنه، وقاطعته بالكلام، ورفعتَ صوتك عليه، وأكثرتَ من مجادلته و تكذيبه، وجعلتَ نفسك نداً ومساويًا له..!

ستذكر قلة زيارتك له، والاستمتاع بالجلوس معه، وسماع صوته، وعدم الاهتمام به، وتقديم أصحابك عليه..!

ستذكر مَنِّكَ عليه بالعطاء وإشعاره بفضلك عليه..!

ستذكر كم دعوت عليه بالهلاك وتمنيت موته، وزواله من الدنيا، حتى ترتاح وتنجو من مراقبته ومتابعته لك..!

هذه ملامح موجزة عن حقيقة مؤلمة وغيضٌ من فيضٍ مما عَقِلَتْهُ ذاكرتك من صور العقوق، فإن امتدتْ بك الحياة سيأتِكَ الولَدُ وتغدو والِدًا فالجزاء سيكون من جنس العمل، والجزاء يكون دائمًا كبيرًا وقاسًيا بحجم ما كان من العقوق.

حَصَادُكَ مَازَرَعْتَ فَكُنْ حَصِيفًا
لِتَظْفَرَ بِالْمُنَى يَوْمَ الْحَصَادِ

وَأَحْسَنْ مَا زَرَعْتَ تَجِدُه ظِلًّا
ظَلِيلًا فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْمَعَادِ

والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.