أن يكون المصير الثقافي للفرد تابعًا مباشرة للتنمية الاقتصادية، وأن تكون إدارة هذه التنمية قضية سياسية في جوهرها، فإن هذا نوع من الإشكالية يسلِّم به الاقتصاديون وعلماء الاجتماع والفلاسفة.

أنه كذلك حقيقة تبقى وسائل تحقيقها محصورة؛ إما في الدائرة التقنية، وإما في منطقة العموميات.

والمراد في الحالة الأولى رفع التناقضات التي يمكن أن توجد بين الغايات الفردية، والغايات الجماعية من خطة التنمية؛ من أجل عقلنة العلاقة بين الأهداف، والوسائل الواجب استخدامها.

والمراد في الحالة الثانية أن نؤيد بحرارة أهداف الأنسنة التي ينبغي على كل خطة تنموية اقتصادية واجتماعية أن توضحها كبيان عن مبادئ، وتؤكد هذه العموميات على أن تكاليف الإنسان لا يمكن أن تقتصر على نفقات صيانة قوة العمل، بل ينبغي أن تأخذ بالحسبان حاجات الفراغ والإعلام والثقافة.

إذ أن الفراغ يظل في المجتمع الصناعي عملاً استهلاكيًّا والإعلام تكييفًا دعائيًّا، والثقافة نثارًا مؤذيًا من بيوت أو ندوات.

إن كلفة الإنسان لا تبنى عليها قيمة الإنسان، إلا إذا كان المقصود قيمته التجارية أو الاقتصادية.

ومن الأسئلة المهمة في هذا المجال، كيف يمكن للنظام الاقتصادي أن يهتم بسد الحاجات الأنفع؟ وهل من العقلانية أن التسلُّح والمخدرات والكحول، أو السلع البدائية والحيوية التي أصبحت اقتصادية في حساب موجودات الإنتاج؟

فلو طُبق المفهوم الاقتصادي للاستهلاك على الإنسان والبيئة، لرأينا أن هناك أُممًا وفئات اجتماعية دخلها سالب؛ أي إن طاقتها الكامنة البشرية والتقنية تستنفذ بأكثر مما تنمو مواردها الظاهرة.

كتب بول فاليري يقول: إن العالم الحديث منهمك في استغلال الطاقات الطبيعية استغلالاً يزداد على الدوام فعالية وعُمْقًا.

ويقول أوزيريس سيكوني في كتابه “التنمية الاقتصادية والتخلف الثقافي”: إن الإنسان الحديث في نشوة من التبذير؛ من إسراف في السرعة، وإسراف في الإنارة، وإسراف في المخدرات والمنشطات، وإسراف في كثرة المطبوعات، وإسراف في التسهيلات وإسراف في العجائب، إن كل عيش حالي لا ينفصل عن هذا الإسراف.

لا ريب في أن جميع الناس لا يعرفون أنه قد قدر لكلِّ فرد منهم أكثر من طن من المتفجرات، إن مؤلفات التخيُّل تغدي من آن لآخر ذهان الرعب والعجب، إنه تعارض يقويه المحللون النفسيون، ولكنه يدل على استخدام القوة لا على معنى النزعة.

إن المعرفة العلمية التقنية يمكن أن تصنع من الكرة الأرضية جنة عدن، وهذا مدعاة للعجب، ويمكنها أن تسبب كارثة أرضية هائلة لا تُرد وهذا مبعث الرعب.

إن الوسائل الإعلامية المختلفة من صحافة وتلفزيون وسينما، وقنوات فضائية وبث مباشر تُحدث في جهازنا العقلي والأخلاقي قلقًا يفسد نمط العيش؛ فلا ثقافة تحت التهديد المباشر للحرب، بل بالعكس شعور منتش بالقلق، ومن هنا كانت الحاجة إلى التناسي في اللذة.

إن عالمًا بدون ثقة تنذر فيه القوة بموت المستهلك المفاجئ، وإذا قلنا قلق لا خوف، فذلك لأن غرض التهديد وموعده وأسبابه ونتائجه كلها ليست معينة ومحددة بوضوح، إنه خطر مادي، اجتماعي، حياتي.

فبعد سنين من قنبلة هيروشيما، بقي سرطان الذرّة يفتك بالناس، هذا بشأن الخطر المادي الذي لا يزال قائمًا، رغم أنه يبدو في طريق الاضمحلال منذ أن قلَّ عددُ التجارب النووية، والخطر البيولوجي يصعب حصره كذلك، قد يتعدى الماديات إلى نفس الكائنات الحية بحيث تَنسِف مستقبل الجنس.

كتب روستان يقول: إذا لم تؤثر البيئة والظروف البتة في عناصر الوراثة، وإذا بقيت طريقة عيش الفرد وفاعليته وتجربته دون أثر في الإرث، فإنه يمكن أن يحدث تحول يؤثر بصورة عامة في اتجاه الانحسار: عمى الألوان نزق المزاج، زيادة عدد الأصابع، فقدان البصر، الصمم والبكم، البلاهة الولادية.

والحال أن شروط العيش الحالية تتيح أن يبقى على قيد الحياة أفراد كان سيقضي عليهم نمط العيش القديم .

وفي الوقت الذي تزيد فيه الحضارة دون توقف من كمية الحياة البشرية، ومن كمية البروتوبلازما البشرية الموجودة على الكرة الأرضية، فإنها تقلص من نوعيتها البيولوجية.

إن الكرة الأرضية في وقتنا الحاضر تتميز قبل كل شيء بالفارق الذي يتزايد خطره بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، والحال أن خبراء الأمم المتحدة يسلِّمون على ما يبدو بأن معيار التخلُّف سكاني.

وربما كان هناك مجال لبحث ما إذا كان الانفجار السكاني سببًا للبؤس أم نتيجة له، أو ما إذا كان يقيم مع التخلُّف علاقة سلبية.

وبعد هذا فإن مجموع العلاقات بين المجتمعات الصناعية والعالم الثالث يتركز على الانتقال الضروري من الإحسان إلى العدالة.

إن العالم الثالث يؤلف، من الناحية الكمية ثلثي العالم، إن لم نقل ثلاثة أرباعه، والعالم الثالث من الناحية النوعية العالم المقصي عن التنمية الاقتصادية، والخاضع لسيطرة الغرب، وللأشكال المتعددة من الاستعمار الجديد أو الاستعمار الخفي الاقتصادي والسياسي.

والازدحام السكاني: هو تلوث ولده التخلف الذي به تضمن البلدان المصنعة لنفسها قسطًا كبيرًا من وفرتها، وازدحام المدن ينتج هو أيضًا عن نمو اقتصادي نموًّا عشوائيًّا.

والازدحامان، الأول بسبب نمط العيش البائس، والثاني بسبب نمط العيش المترف، ليسا من طبيعة واحدة، فهما يعكسان سبيبتين متنافرتين، سبيبة الفاقة، وسبيبة الأنانية.

إن جميع تحليلاتنا تتجه آخر الأمر نحو المعنى الثلاثي لانحطاط نمط العيش الصناعي: انحطاط البيئة وتدهورها، والطابع الاجتماعي المفكك، وأنانية الإنسان وتسلطه الذي تلخصه عبارة: تنمية اقتصادية وتخلف ثقافي.

والعلاج الذي يقترحه الاقتصاديون الغربيون ليس سوى علاج كاذب؛ فَهُم يعتقدون بتحقيق عقلانية اجتماعية بمجرد تأخير التنمية كميًّا؛ أي: دون تغيير البِنَى التقنية الاقتصادية.

فإذا كان الأمر يتعلق بانحطاط البيئة وتدهورها الذي يزداد أثره السلبي، فإن المحاسبة الاجتماعية تستطيع مواجهتها، مع مراعاة أن الهواء النقي والهدوء والفراغ الحقيقي سلع اقتصادية ذات مغزى ثقافي.

وإذا كان الأمر يتعلق بانحطاط الطابع الاجتماعي المفكك، فإن التحليل الاجتماعي الاقتصادي الموجهين في حدود معيارية ينبغي أن يلاحظا أن كل خلل في توازن العلاقات الاجتماعية ينتج عن اعتداء على مجموع العلاقات التي يقيمها الإنسان مع وسطه، ويكن لهذا المجموع أن يكون ماديًّا، بيولوجيًّا، اجتماعيًّا، سياسيًّا، ثقافيًّا، اقتصاديًّا.

وإذا كان الأمر يتعلق بانحطاط الإنسان نفسه، فإننا نعود بطبيعة الحال إلى التأمل في الوضع الصناعي للمزدوجة حاجات قدرات؛ حيث إن نمو الحاجات يتجاوز بمراحل تطور نمو القدرات.

وحاصل القول:

فإن البشرية لا تطرح على نفسها – ولا ريب – سوى القضايا التي تستطيع حلها، فكيف يمكن للبشرية أن تتكيَّف مع الأنسنة والعقلنة في هذا القرن الجديد.