بداية لقد كان الذي استفزني لكتابة هذا المقال؛ جملة كتبتها أستاذتي الغالية أ.د. فوز كردي-حفظها الله- في حالتها على تطبيق (الواتساب)؛ كما هي عادتها في النصح بجمل تمس القلوب، قالت فيها:

[(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) نتعلم منها التغافل حفظاً لود وتجاوزا لمشكلات]

فلم تمر بي العبارة وتتركني لكتابي وقلمي؛ فعصفت بذهني، وأخذتني لأحداث كثيرة مرت بي أو مررت بها؛ لأتفكر في المواقف وردود الأفعال، وتصنيفها منطقيا.

فبالتأمل نجد أننا عندما نمر بمواقف معينة لابد أن يكون لنا منها ردة فعل، إما مناهضة؛ تنم عن عداء، أو استعلاء. وإما متغافلة؛ تقوم على وداد، أو تواضع واستحياء. ولا ثالث لهما إلا الحيرة والشتات؛ وفي الحقيقة ستأخذنا الحيرة في النهاية لواحدٍ من هذين الموقفين.

وعند التأصيل نجد أن حياتنا بجميع محاورها ودوائرها تعتمد على علاقاتنا؛ فهي إما داخلية مع النفس، وإما خارجية مع الآخرين، أو جامعة بينهما، وهي علاقتنا مع الله؛ وذلك لأن العلاقة مع الله تبدأ من الداخل وتنطلق بنا إلى الخارج، فتؤثر في تعاملنا مع ما هو حولنا، كما أنها تبدأ مع النفس، ثم تنطلق لتكون مع الآخرين. وتضيق تلك العلاقات وتتوسع؛ بحسب الكثرة والقلة، والأبعاد الوظيفية، والتعلية، والأسرية، وغيرها؛ بل حتى العلاقات العابرة السريعة المؤقتة.

إن الكلمات والتصرفات التي يوجهها الآخرون إلينا قد تجرحنا بل وقد تقتل فينا شيء أو أشياء، وربما تدمر حياة البعض؛ بالمؤامرات والمكائد، التي ربما لا يستطيع من وقعت عليه الأخذ بحق نفسه، ولا حتى الشكوى ممن ظلمه؛ لسعة سلطانه، أو قدرته؛ فنجد المحتالين باسم الخير، ونجد الظلمة باسم المصلحة؛ وعلى رأي إخوتنا المصريين: “القانون لا يحمي المغفلين”، وأهلينا في الحجاز: “يا غافل لك الله”.

ومع إن ما ذكره تعالى عن موقف سيدنا يوسف -عليه السلام- كان منطلقا من موقف قوة، إلا أنه كان صادرا من ود ورحمه؛ لإخوته الذين كادوا له، وعانى بسببهم عقودا من البلاء، بالإضافة إلى أنه لم يغفل عن أن إسراره هذا من التواضع لله، والبر بوالديه؛ ويتضح ذلك في قوله -لما تحققت رؤياه وجمع الله بينه وبين أهله ورفعه الله على إخوته-(يا أبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وقَدْ أحْسَنَ بِيَ إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ) [يوسف: 100].

وقد أكد الله تعالى على اتخاذ موقف الود، وسد ذرائع المشاكل، في جميع الأحوال؛ وليس حال القوة فقط، في قوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34]؛ كي لا تأخذنا العزة وتقدير الأنا العالي للتمادي والتعادي.

إضاءة: قال الإمام أحمد رحمه الله: “للعافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل”. [شعب الإيمان للبيهقي (10/ 575 رقم: 8028)].