إن النظرةَ المتفقَ عليها بين ربابنة الرِّواية وأَسَاطين التَّحقيق، هي إضفاء الحُرمة العلميَّة وتعظيم الجَنَاب الثَّقافي لتلك النُّصوص القديمة والمتناقَلة من خلال النُّسَخ الخطيَّة الموثوق بها؛ وهذه الحُرمة وذلك التَّعظيم لم يأتيا من ذاتية النَّص أو شخصيَّة المؤلف؛ فهما في أحسنِ أمرهما لا يُبارحان الاجتهادَ البشري غيرَ المعصوم؛ وإنما هذه الهالةُ التُّراثية تنقدحُ شرارتُها ويسطع نهارُها، من مبدأ ومسلَّمة أمانة النَّقل ومسؤولية الرِّواية وذمة النِّسبة وتبعات الإسنَاد؛ وهو أمرٌ تميَّزت به أمةُ الإسلام وعلا كعبُها فيه، وبلغتْ من الثقة بتراثها مبلغ الطُّمأنينة التامَّة التي لا تغادر صغيرًا ولا كبيرًا.
فهذا القاضي عياض (ت544هـ) – رحمه الله- يُؤسس لهذه الكليَّة في نقل التراث وأداء الرِّواية وتمرير النُّصوص للأجيال القادمة؛ فيقول رحمه الله: “وحماية باب الإصلاح والتَّغيير أولى؛ لئلا يجسرَ على ذلك من لا يُحسن ويتسلط عليه من لا يَعلم” [الإلماع: ص186]، حتى إنه -رحمه الله- أغلق هذا الباب في وجه المتزايدِ من العِلم والمتطلِّعِ للصواب على حساب النَّقل الحرفي المتعين في هذه السِّياقات؛ فيقول رحمهُ الله: “منهم من يجسر على الإصلَاح، وكان أجرأَهم على هذا من المتأخرين القَاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني الوَقَّشي (ت489هـ)؛ فإنه لكثرةِ مطالعته وتفننه في الأدب واللغة وأخبَار الناس وأسماء الرجال وأنسابهم وثقوب فهمه وحدَّة ذهنه، جَسر على الإصلاح كثيرًا، وربما نبَّه على وجه الصواب، لكنه ربما وهم وغلط في أشياء من ذَلك، وتحكَّم فيها بما ظهر له أو بما رآه في حديث آخر؛ وربما كان الذي أصلحهُ صوابًا، وربما غلط فيه وأصلح الصَّواب بالخطأ” [الإلماع: ص186].
وهذه المعلمَة وهذا التميز الإخباري في تناول تراث الحَضارة الإسلامية، وتناقل إِرثها الخَطي بين الأجيَال المتعاقبةِ وفي مختلف العُصُور، لا يعني ذلك التَّسليم المطلق بكل ما تهادَى بين سطور النُّسخ الخطية، ومنحه صكَّ القبول والإذعان، وتصحيح نَسَبه الشرعي إلى بنات فِكُر المؤلِّف؛ بل أَدْرَك العقلُ الجمعيُّ الواقف على ثغرِ وخزانة تراث الأمة، أنَّ هناكَ مُعتورًا ومعتركًا من آفاتِ ولوثاتِ النَّقص البشري وجَور يد الزَّمان على هذه المحفوظاتِ؛ فربما طالَ الناسخَ والراقمَ لها عارضُ الوهمِ والنسيان واللبسِ، وربما طال المنسوخَ منها آفاتُ الأرض أو السماء أو غيرهما؛ فأنتجَا -هُنا أو هُناك- بعضًا من تصحيفٍ أو تحريفٍ أو سقطٍ أو بياضٍ أو سوادٍ، في غير ما قصدٍ أو إساءةٍ لهذا الكنزِ الحضاري.
إنَّ هذه المدركةَ وَعَاها أهلُ النقل والرواية، وأحاطوا بما قرُب منها وما بعُد؛ فهذا الإمامُ العيني (ت855هـ) -رحمه الله- يقول: “من شأن النُّساخ التحريف والتصحيف والإسقاط” [عمدة القاري: 18/174]، بل إنه لا يلزم من جودة الخط وكثرة الضبط سلامة النص من السَّقط؛ يقول ياقوت الحموي (ت626هـ) -في ترجمة أبي الحسن الكاتب الوراق-: “جيد الخط كثير الضبط، إلا أنه مع ذلك لا يخلو خطه من السقط وإن قلَّ” [معجم الأدباء: 4/1644]، ويقولُ التُّورِبِشْتي (ت661هـ) في بيان تعدِّي هذه الهَفْوة من ناسخٍ ما إلى مجتمع الوِراقة والكُتبيَّة: “لعل بعض النساخ تخبط فيه؛ فصار أسوةً لمن لا عناية له بعلم الحديث” [الميسَّر في شرح مصابيح السنة: 2/394].
إنَّ هذا الوعيَ بهذه المدركةِ كما هو ثابتٌ ومسجلٌ في الصنعةِ التراثية عند الأمَّة، فقد تحوَّل -وفي وقت مبكرٍ- إلى منظومةٍ من القيم والمعارف والمهارات، والتي تحكمُ وتُقنن كلَّ التصرُّفات والمعالجات للتراث المخطوط، وتجعلُ هذه الاجتهادات متولدةً من ثوابتَ ومحكماتٍ، من شأنها أن تصقلَ العقل الفاعل في النَّصوص المرويَّة، وأن تشحذَ المهارة المتعاطيةَ مع الآفات والتحديات، وأن تجعل من تحقيق المخطُوط الإسلامي صنعةً لا بد من الحذْقِ بها والتمكُّن فيها.
وإنَّ من أوجه الحذقِ بصنعة التحقيق، هو ذلك التوازنُ والتَّكامل في مهارة التدخل في النَّص المحقَّق عند الحاجة إليه؛ والذي يأخذ بأطراف الأمانةِ والمسؤولية العلمية من جنبٍ، وبأطراف التَّعقل والتَّروي والتَّؤدة من جنب آخر.
فمن الحذقِ بهذه المهارةِ التراثية: أنْ ينطلقَ التدخلُ من كليَّة الضرورة لا الحاجة فحسب، ومن الدَّاعي الصَّادق الذي لا تسعُ إلا إجابتُه ولا عذرَ منه البتَّة، وأن تُرعى حرمة النُّصوص المروية ويُعظَّم جنابُها، وألا تمس أطرافُها الطَّاهرة أو يكشف نقابُها السَّابغ لأجنبيٍّ من القول المخترعِ واللفظِ المبتكر، وألَّا يُسْلِمَ المحقِّقُ نفسَه لإغراءاتِ المعاني الجِياد والنُّصوص الكاملة الخِلقة والمعارف المتعَارف عليها، وأن يكون في شكٍّ من ذلك كله؛ فحماية عِرض الكلمة التراثية ولو على خَلَقٍ، أولى مِن كسوتها بزُورِ الموشَّى والمطرزَّات.
وفي هذا المعنى يقول الدكتور عَبد العظيم الدِّيب (ت1431هـ) -رحمه الله- في مقدمة تحقيقه لكتاب (نهاية المَطْلَب): “على المحقِّق ألا يعتمد على مألوفه من قَوَاعِد اللغة نَحْوها وَصَرْفها، فَيُسَارع بتغيير ما يراه مخالفًا لما علِمه أو تعلَّمه، بل عليه أن يتأنَّى ويتوقَّف، ويراجع كتب اللغة، فإن لم يجد عندها الجواب فعليه أن يَسْأَلَ علماء اللغة وأساطينها؛ وفي كل الحَالَات إذا لم يجد وجهًا لما في المخطوط، وانتهى الأَمْر بعد المُرَاجعة والمُبَاحثة إلى تغييره: فيجب أن يُثْبِتَ ذلك في الهَامِش بوضوح، ذاكرًا المراجع والمحاولات التي قام بها؛ فقد يصل بَاحث آخر فيما بَعْدُ إلى وجه من الصَّواب لهذا الذي غَيَّرَهُ” [المقدِّمات: ص359].
ومن النَّظائر التي وقعت في تراث الأمة من هذا الجنسِ، وعبَّرت أبلغ ما يكون عن هذا الحذقِ التَّحقيقي مع عارضِ وطَارئ التدخل في العبارة التراثيَّة: ما جاء في كتاب (الشفا) للقاضي عياض (ت544هـ) رحمه الله، وأنه قال: “وأما تواضُعه -صلى الله عليه وسلم- على علوِّ منصبه، فكان أشدَّ الناس تواضعًا وأقلَّهم كبرًا” [1/130]؛ فقد اعتَرض بعضُ النَّاس على هذا؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- منتفٍ عنه الكِبْرُ أصلًا ورأسًا، وصار هذا المعترضُ يتتبع نُسخ (الشِّفا) فيمحو ذلك منها؛ فسُئل الحافظُ ابن حجر (ت852هـ) -رحمه الله- أهو مصيبٌ في ذلك؟ فأجاب: “بأنَّ الاعتراضَ باطل”، وذَهَبَ -رحمه الله- يوجِّه هذا الكلام بما لو رآه المعترضُ لخجلَ من نفسِه ومن جرأتِهِ على التصرُّف، ثم ختم ابنُ حجر جوابَه بقوله: “ولا يجوز إتلافُ نُسخ (الشِّفا)، والله أعلم” [الجواهر والدرر: 2/951].
وممَّا رأيتُه مِن هذا النَّحْو، في تحقيقي لكتاب (محاسن الشريعة) لأبي بكر القفال الشَّاشي (ت365هـ) رحمه الله: أنِّي وَقَفْتُ في نُسْخَة (جامعة ييل) على النَّص التَّالِي: “فإذا لمْ تَفعلْ فأنتَ المتوي لحقِّكَ إنْ توي”، وكان هذا النَّص غيرَ منقوط، وكان في نسخة (مكتبة أحمد الثالث) سَقْط: فَقَلَّبْتُ هذا اللفظ غير المنقوط (توي) على أكثر من احتمال، فلم أهتد فيه إلى معنى، وكنت أَلِفْتُ من النُّسْخَتَيْن الَّلتين بين يَدَيَّ الوقوعَ في الوهم: فَتَدَخَّلْتُ في النَّص بما يناسب؛ وبعد حينٍ، وكريمِ توجيه من العَالم الثَّبتِ فضيلة شيخنا الدُّكتور أَحمد بن عَبد الله بن حُميد -وفقه الله- بمراجعة النَّص: وَقَعَ في النَّفْس عَرْضُ كُل احتمال يُتَوَقَّعُ في قراءة هذا اللفظ على مَعَاجم اللغة، فَصَحَّ من ذلك احتمال يُوَافِقُ معناه السِّياق؛ إذْ إنَّ لفظة (تَوِيَ) تأتي بمعنى التَّلَف؛ وهو المعنى الذي يريدُه السياق، وينجُو به من مبضعِ وجراحةِ التَّدخل.
ومن الحذقِ بهذه المهارةِ الدَّافعةِ والمعالِجة لأوهام النُّساخ أو جَور الزمان على المنسُوخِ بآفاته: أنَّه إذا صدقَ الدَّاعي، وصحَّت الضرورةُ، وانتفى كلُّ سبيل إلى التَّوجيه والتأويل، ونادَى مُنادي اليقين بحرفٍ ما أو كلمةٍ أو عبارةٍ؛ مِن شأنها أن تُسبلَ ثوب السَّتر على عوراتِ المرويِّ، وتكشفَ اللِّثام عن مُحيَّاه الصَّبيح، وتصل أطرافَ المودَّة بين أجزائه؛ فإنه لا بدَّ في هذا اللفظِ المبتكرِ من مراعاة أسلوب المؤلِّف، مراعاةً يتمازج فيها القولُ حتى يكون عن قوسٍ واحدةٍ، وَيتصلُ فيها اللفظُ المولَّدُ بآبائِه صِحَاحِ النَّسب؛ فلا تنكر منهم أحدًا، ولا تجدُ بينهم قاطع طريقٍ على قوافلِ الفِكر والمعَاني.
وهذه المهارة لا يُلقَّاها إلا الذين صَبُروا على قراءة واستقراء واستظهار الكتاب المحقَّق، وأوتُوا حظًّا عظيمًا من الفهم والوعي والانطبَاع؛ يقول أَبو عُثمان الجَاحِظ (ت255هـ) -رحمه الله- في (الحيوان): “ولربَّما أراد مؤلِّف الكتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمةً ساقطةً، فيكون إنشاء عشر ورقات من حرِّ اللفظ وَشَرِيف المَعَانِي أيسر عليه من إتمام ذلك النَّقص حتى يردَّه إلى موضعه من اتِّصال الكلام” [1/55].
ومن حذقِ المعالجة التحقيقيَّة: ألَّا تُمَدَّ يدُ الحذفِ أو الاختزال أو الإبعادِ لكلِم النَّص التراثي، ولو عظمت جنايتُه على المقرَّرات والمحكماتِ فيما يُزْعمُ ويُظن؛ بل يُتْرَكُ حرفُه حرًّا طليقًا، ترقبه لحاظُ القارئين، وترشقُه سهام النَّاقدين؛ فالإصلاح بالمحاكمة العلميَّة الجماعيَّة أوجب وأقعدُ لنصوص التُّراث من الإصلاح بالإقصاءِ والتحكمِ من العُقُول المفردةِ.
وممَّا وقع من ذلك ما وقف عليه الحافظُ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- في خزانة المدرسة المنكوتمريَّة في القاهرة، من نسخةٍ لكتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني (ت356هـ)، ورأى في ترجمة الشاعر أبي العتاهية (ت211هـ) بياضًا تعمَّده الناسخُ، واعتذرَ فيه بأنه ممَّا لا يجوزُ كتابته؛ فقال -أي: ابن حجر-: “قوله: (ممَّا لا يجوزُ كتابته) جهلٌ من الكاتب، وحاكي الكُفر ليس بكافر، وليس للنَّاسخ أنْ يتصرف فيما ينسخُه، والكلام الذي حَذَفَه هو قولُ أبي العتاهية: (قرأتُ البارحة ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾، ثم قلتُ قصيدة أحسن منهَا)؛ وفي السَّند إليه نظرٌ، فإنْ ثبتَ كان كافرًا، لكن يُحتمل أن يكون هذا في شبيبته، ثم تنسَّكَ بعد ذلك وتاب”؛ يُعلق الحافظُ السخاويُّ (ت902هـ) -رحمه الله- مُشيدا بهذه الصَّنعةِ العاليةِ من شيخِه، فيقولُ: “بل رأيتُ شيخنَا في ترجمة أبي العتاهية -أيضًا- من الكتاب المذكور، سدَّ بخطه ما بيَّضَهُ الناسخُ؛ لكونه – في زعمه- ممَّا لا تجوز كتابته” [الجواهر والدرر: 1/386].
ومن الحذقِ والفقهِ المثْنَى عليه في هذه النَّاحيةِ: أنَّ النهيَ الشرعيَّ والأدبيَ عن التَّدخل في النُّصوص التراثية لا يعني المنعَ منه مطلقًا، وأن يبقى قلمُ التَّحقيق صامتًا، ومبضعُ المعالجةِ مغمدًا؛ كأن لم يكن بالمنسوخ خطبٌ ما؛ بل تواردت كلمُ المحققين وتوافق منهم الصَّنيع المحكم الحَكيم، على الإذنِ بهذا النوع من التدخلات المرضيَّة والمحمودَة، وبالقَدْر الذي تبيحه الضُّرورة؛ فأجازوه في مسوَّدات النُّسخ، وفي سهو المؤلِّف والنَّاسخ القَطعيين، وفي سدِّ البياضات، وتصويب المرويَّات.
فهذا المحقِّق المتقِن د. إحسان عباس (ت2003م)، حينما حقَّق كتاب (فوات الوفيات والذيل عليه) لابن شاكر الكتبي (ت764هـ) على نُسخة المؤلف، يقول -رحمه الله- في منهج التحقيق: “حرصتُ على إبقاء النَّص كما ورد في نُسخة المؤلف، إلا حيث كان الخطأ اللغوي أو الَّنحوي مما يمسُّ رواية شعر قديم، أو يتَّصل بشخصٍ لم يُعرف عنه التساهل في اللغة النحو؛ فصوَّبت المتن، وأشرتُ إلى نص الأصل في الحاشية، أما ما كان أسلوبًا حواريًّا أو إخباريًّا يمثل اللغة الدارجة في القرنين السابع والثامن على وجه الخصوص، فقد أبقيتُه في المتن على حالهِ دون تغيير” [1/6].
وبعد هذا الاستعراضِ لمعالم الحذقِ بهذه الصَّنعة التُّراثية، فإني أقول لطلاب العلم وروَّاد التحقيق: إنه لن يترقَّى المحقِّق عن رُتبة الكَتَبة والورَّاقين، ولن يُؤدي أمانةَ هذا الإرث الحضاري وأن يكون حارسَه الأَمين؛ ما لم يكن متقدَ الذِّهن، متحفزَ العزيمة، متسلحًا بأدوات التحقيق، متمهرًا بمسَارب ودَقَائق هذه الصَّنعة؛ وإلا فإنه رقمٌ جديدٌ يُزاحمُ في سُوقِ النَّسْخِ والوِراقة، بل ربما كانَ عبئًا قَصَم ظَهْرَ رَاحلة التحرِّي والتَّحقيق.
التعليقات
اترك تعليقاً