مخطُوطة (الجواهر المفتخَرة من الكنايات المعتبرَة)، لمحمَّد النُّعمان بن محمَّد ابن عِراق
عَرَفَت العربُ ضربًا من ضروب البديع والبيان، وهو الكناية عن الشيء بما يُنبئ عنه لزومًا؛ حتى قالوا: الكناية؛ لفظٌ أُطلق، وأريد به لازم معناه الحقيقي، لقرينة لا تمنع من إرَادة المعنى الأَصلي، وهي واسطةٌ -عندهم- بين الحقيقة والمجاز؛ فهي ليست حقيقة؛ لأن اللفظَ لم يُرد به معناه الحقيقي، بل أُريد به لازم هذا المعنى، وليست مجازًا؛ لأنَّ المجاز لا بدَّ له من قرينة مانعةٍ من إرادة المعنى الحقيقي؛ كذا فسَّرها أرباب البلاغة، أمثال: المؤيَّد العلوي، والبهاء السُّبكي، والجلال السُّيوطي.
وعلى سبيل المثَل؛ فممَّا جرت به الكنايةُ عند العرب، في شأن موت الرُّؤساء والأعزَّة، وهو بابٌ سطَّره أبو منصور الثعالبي في (سحر البَلاغة، وسر البَراعة)؛ عندما سرد مِن الكنايات -في هذا المساقِ- جملةً من اللحُون؛ كـ: “انقضت أيَّامه، واستأثر اللهُ به، وانتقلَ إلى جوار ربه، وانقلب إلى كرامة اللهِ وعفوه، وخانه عمره، ولم تسمح النوائبُ بالتجافي عن مهجته، وأجاب داعي ربه، ونفذ قضاءُ الله فيه، ولحق بالسَّبيل التي لا احتراز منها ولا مجازَ عنها، وقبضه اللهُ إليه، وأسعده الله بجواره”.
وقد تألَّق القلمُ العربي في تدوين هذه الأنشودة البلاغيَّة، وتتبع أبوابَ ومضاربَ استعمالها، وسجَّل شواهدها من المنثُور والمنظُوم الفَصيح؛ فابتدرت مدوناتُه في وقت مبكِّر من عُمُر التَّأليف الإسلامي؛ فكتب أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي المتوفى سنة (٤٣٠هـ)، كتابه الذي يكادُ أن يكون الأولَ من نوعه فيما أعلمُ، ورأس الطَّليعة البيانيَّة الكنائيَّة، وهو كتاب (الكناية والتَّعريض)، ثم لم يلبث غير بعيدٍ أن كتب القاضي أبُو العبَّاس أحمد بن محمَّد الجرجاني الثَّقفي المتوفى سَنة (٤٨٢هـ)، كتابه الأشهر: (كنايات الأدباء وإشارات البلغاء)؛ وكلا السِّفرين الكريمين مطبُوعان ومحقَّقان في زَمَن متقدِّم من تاريخ الطِّباعة المعاصر.
ثمَّ جَادت الخزائن الخطِّية -بعد ذلك- بحبيسةٍ نفيسةٍ؛ وردَت هذا المنبَع، وتعلَّت هذا المطلَع؛ فكتبت في كنايَات العَرب، وغرَّدت ببديع هذا الطَّرب، وضمَّت من أبوابه ما حوى جملة مضاربِه، ودرةَ مساربِه؛ أريدُ وأشيدُ من ذلك بما رقمهُ محمَّد النُّعمان بن محمَّد بن عَلي بن عَبد الرحمن ابن عِراق، والذي كان حيًّا سنة (953هـ)، وأَسمى بديعتَه النديَّة (الجواهر المفتخَرة من الكنايات المعتبرَة).
وهذا النُّعمان ابن عراق –رحمه الله- لم تُسعف مدونة التَّراجم والأنسَاب والطَّبقات بوجهٍ يُعرب ويُسفر عن مقامِه وأيامِه؛ إلا ما أفاد وتفرد به الشيخ رضيُّ الدين ابن يوسف الحلبي، في (دُرر الحبَب في تاريخ أعيان حلب)؛ وأنَّ صاحبَنا النُّعمان دمشقيُّ الأصل، حجازيُّ المولد، حنفيُّ المذهب، وُلد بين الزُّهاد الآخذين الطَّريق عن السَّيد علي بن میمون، قدم حلبَ مع أخويه العَلاء والسَّري سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة، ووليَ قضاء تَعز من بلاد اليَمن الميمُون.
وبتتبُّع أَفراد هذا الخبر، ومقارنة قرائنه برجالاتِ وأُسر زمانه؛ فإنه يغلب على الظنِّ، أنَّ باحثنَا وكاتبنَا الكَريم هو ابنُ العَلَم الثَّبت الإمَام المزكَّى: محمَّد بن علي بن عبد الرحمن ابن عراق، الشَّيخ الإمَام، العارف بالله تعالى، المجمع على ولَايته وجَلالته، مصنِّف (هداية الثَّقلين في فضل الحرمين)، و(السَّفينة العراقية)؛ ومِن ثَمَّ فهو أَخ الحافظ: علي بن مُحَمَّد بن علي بن عبد الرحمن، عَلَاء الدَّين أَبي الْحسَن الشَّافِعِي، الْمَعْرُوف بِابْن عراق، نزيلِ وخَطِيبِ الْمَدِينَةِ المنورة، وصاحبِ سِفر (تَنْزِيه الشَّرِيعَة المرفوعة عَن الأخبار الشنيعة الْمَوْضُوعَة).
أمَّا رائعتُه البيانيَّة؛ فهي من التُّراث الحَبيس -فيما ظهرَ لي- بالخزائن الخطيَّة، والمرهون بقلمٍ من التَّحقيق يبعثُ فيه الحياةَ من جديد، ويُناغمُ ويُساررُ أُمثولاته من روائع ومدوَّنات الكناية العربيَّة؛ وسعيًا في نشر صفحات هذا التُّراث الأدبي، وردِّه إلى مصفُوفة الرَّف الثَّقافي، كان هذا المقالُ؛ آخذًا بالأيدي، ومُلقيًا بالأبصار، ومحفزًا لهمم النُّظار الكرَام.
فالكتاب محفوظٌ؛ في نسخةٍ خطيةٍ متقنةٍ نفيسةٍ، بمكتبة (ليدن) الهولنديَّة، تحت رقم (1053)، كما هو مسجلٌ على كعب المخطوط، والمخطُوط عبارةٌ عن مجموعٍ من كتابين لابن عراق ذاتِه، جاءت (الجواهر المفتخَرة) فيه من اللوح رقم (1/ب) إلى اللوح رقم (97/أ)، بمعدلٍ متوسطٍ من الأسطر (17سطرًا)، ومن الكلمات (10كلمات)، وقد كُتب بخطِّ نسخٍ جميلٍ، ومنقوطٍ، وكامل الألوَاح، ومتقَن الحَرف، وموسوم بتعقيبةٍ أدناه، وبترقيم حديثٍ أعلاه.
ومما يزيدُ نفاسة هذه النُّسخة الهولنديَّة؛ أن سُجل في آخرها قيدُ مقابلة، ورد فيه: “بلغ مقابلة على يد مؤلِّفه، العبد الفقير إلى الله تَعَالى، نُعمان بن محمد بن عراق، (وقد) تمَّ في مجلس شيخنا الشَّيخ أبي الفتح بن عمرَان المقدسي الضَّرير، (نفعه) الله به”؛ وفي مباحثةٍ كريمةٍ مع الشيخين الفَاضلين والعَارفين بمستَودع التراث المخطُوط، الشَّيخ عادل العوضي والأُستاذ إبراهيم اليحيى، فإنَّه يتراءى لي أنَّ هذا القيدَ بخطِّ ابن عراق رحمه الله، وأنها مقابلةٌ نجزَت على يدهِ وفي مجلس شيخهِ، وهو ما رأيتُه عند جُرجي زيدان في (تاريخ آداب اللغة العربية)؛ غير أنَّه زادَ، فجعلَ الكتابَ كلَّه بخطِّ المؤلِّف.
وزيادةً في تمكُّن هذه الفرصة التحقيقيَّة، فإنَّ للكتاب نسخًا أُخرى؛ ففي الخزانة التيموريَّة، بدار الكتب المصرية، مصورتان؛ إِحداهما برقم (447)، والأُخرى برقم (614)؛ وقد كُتبت الثانية سنة (1305هـ) على يد الخطَّاط عيسَى بن محمَّد المالكي، في (168) وجهًا، وبخطٍّ في غاية الجمَال والوضُوح، ودُبِّجَت حواشيه بمقابلاتٍ للتَّصحيح والاستدرَاك.
ودلالةً على عُمق القِيمة العلميَّة لهذا الكتَاب؛ فهذا مسردٌ بالأبواب الثَّمانية، والتي اختطَّها ابن عراق -رحمه الله- هيكلا لكتابه، وتيمُّنًا بأبواب الجنة الثَّمانية؛ وهي: بابٌ في الكنايات الواردة في القرآن والأخبار والآثار، وبابٌ في إيراد ألفاظٍ باطنها بخلاف ظاهرها، وبابٌ في الكنايات عن الصَّنعة الخسيسة بألفاظٍ تُحسِّنها، وبابٌ في المسمَّى والمكنَّي في الأسماء، وبابٌ فيمن تمثَّل بشعر كنايةً عن أمر يريده والتخلُّص من الكذب بالتَّورية عنه، وبابٌ في الكنايات عن الأطعمة والأشربة، وبابٌ في الكنايات عن الغِلمان، وبابٌ عمَّا تُكنى به المرأة وعن الحرائر من النِّساء.
ومن لطيف الأدبيَّات المعَاصرة، والتي وردَ فيها كتابُ ابنِ عراقٍ هذا؛ أنَّه في رائعة الأديب الكبير أحمد حسن الزيَّات، ذكرى عُهود، من تحرير وبناء فضيلة أخي ذي القَلم الرَّائد الدكتور عبد الرَّحمن قائد، وتحت مقالٍ طريفٍ بعنوان: الولعُ بالعناوين المسجُوعة، كتب الزيَّات: “ورسمُوا بألوان البيان والبديع صورًا من النَّثر والنَّظم عجيبة، فيها المادة وليس فيها الرُّوح، وفيها الصَّنعة وليس فيها الفنُّ، ونقضُوا من تلك الأصباغ على عناوين الكتب؛ فقالوا: (الشعُور بالعُور)، (مشتهى العقُول في منتهى النُّقول)، (نكْت الهِمْيان في نُكت العُميان)… (الجواهر المفتخرة من الكنايات المعتبرة)”، وعلى جلالة حرفِ الزيَّات وذوقِه، إلا أنَّي أرى أنَّ هذا الميزانَ ليس بذي عدلٍ، إذا ما ضُمَّ عنوان كتابنا إلى ما أوردهُ من هذه المخترعَات: (التُّفاحة في علم المساحة)، و(ألف سِيخ في عين من حرَّم أكلَ الفسيخ) و(أكل الرُّز في حل اللغز)!!
من نسخة مكتبة ليدن الهولندية :
التعليقات
اترك تعليقاً