لا يبعدُ عن عين كل مطالع للنَّتاج الأدبي، فضلا عن المراقبِ له، تلك العملقةُ والرُّسوخ لهاتين القامتين في سياقَات الأدب والشِّعر واللغة؛ فأبو الفَتح مصقعٌ من أئمة اللغة والأدب والنحو والصَّرف، وقائد الإبداع في علم الأصوات والاشتقاق، والرَّائد الصَّادق في فتح المشكلات، ولا سيما الإعراب وعلله؛ حتى قال الثعالبي: “هو القُطب في لسان العرب ، وإليه انتهت الرِّياسة في الأدب”، وقد كان له من جُرأة الاستقلال وحَمأة التَّجديد ما اختطَّ به لنفسِه – مع آخرين – مذهبًا، سمَّاه شوقي ضيف في (أُخريات الدَّهر) بـمذهب البغداديين.
وأما أبو الطيب، وما أدراك ما هو؟! فما طاب قريضُ الشِّعر ولا استقام عودُه ولا نظُرت أفانينُه، إلَّا بتمائم سحره الرَّائعات، وأناشيد دهره الذَّائعات؛ حتى قال ابن رشيق في كتابه (العُمدة): “ثم جاء المتنبي؛ فملأ الدُّنيا، وشغل النَّاس»، وقال عنه ابنُ الأثير: “إنَّه خَاتم الشعراء، ومهما وُصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطرَاء”، وألطفَ اليَازجي حين قال: “كان المتنبي يمشي في الجوِّ، وسائر الشعراء يمشون على الأرض”.
هذه العبقريَّة واللوذعيَّة في هاتين الشَّخصيتين، مما يزيدُ حجمَ الإعجابِ بها، ويُضاعف من سَاعة الوقوف أمَامها؛ تلك الثُّنائية التي نَظمت عقدًا فريدًا، ودبَّجت سطرًا مجيدًا في تاريخ الأَدب العربي؛ أيُّ ثنائية نتحدَّث عنها؟! وقد مزجت بين هذين الجذمين المتطَاولين، وسخَّرت مِن ذَخائر ومَفاخر كل واحدٍ منهما للآخر، وخالطات بين أوشَاج المعرفة بينهما، مخالطةً صنعت من التَّكامل والتَّعاضد والتَّوائم ما أدهشَ ناظرَ الدَّهر بهما.
ولا شكَّ أنَّ هذا القولَ هو فرع التَّخلي عن أطروحة عبد الغني الملَّاح، في مقالته التي ضجَّ بها المجتمع الأدبي، عندما نفى إمكانيَّة اللقاء بين هذين العَلَمين؛ الأمر الذي ردَّه سوادُ من كتبَ عنهما، أو حقَّق لهما؛ كفاضل السامُّرائي، ومحمد علي النَّجار، ومحمد أسعد أَطلس، وفؤاد البُستاني، وعبد الله أَمين؛ وهم يتناغمُون فيما طرحوا مع عشرات النُّصوص، والتي هلَّ طَللها وبَانت أَطلالها؛ فيما حكاه ابن جنِّي عينه في (الفتح الوهبي) وهو الفسر الصَّغير على ديوان أبي الطَّيب، وفي (التَّنبيه) على شرح مشكلات حماسة أبي تمَّام، وتابعه عليه أبو العَلاء المعرِّي في (شرح السَّيفيات)، وهي قصائد أبي الطَّيب في مدح سيف الدَّولة الحمدَاني.
إذا ما تجاوزنا ذلك، ورصدنا بَواكير هذه الثُّنائية؛ وأخذنا من ذلك بطرف أبي الطَّيب، فإنه لا ينفكُّ بصر المراقبِ عن تلك الإشادات التي يُرسلها المتنبي في المجامع العامَّة والخاصَّة، وهو يعرِّف براوية قريضه، وشارح نشيده، والذابِّ عنه في المحافل اللغويَّة، والتي لم تكن على توافق تامٍّ مع خروجَات أبي الطيب عن السَّنن المرسوم، وارتكابه – فيما زعمُوا – زيغا إعرابيا في مباني شِعره، وتمرُّدا على قواعد الاشتقاق الصَّرفي المعتادةِ.
في هذه الأجواء كان أبو الطيب يرفعُ عاليًا من شأنِ هذا الصَّاحب الوفي، وينوِّه بشأنه على رُؤوس الأشهاد؛ ففي (مسالك الأبصار) لابن فَضل الله العمرِي: “كان أبو الطيب المتنبي إذا سُئل عن معنى قاله، أو توجيه إعراب، حصل فيه إغراب، دلَّ عليه، وقال: عليكم بالشَّيخ الأعور ابن جنى، فَسَلوه؛ فإنه يقول ما أردتُّ وما لم أرد”؛ وهذه لطيفةٌ من أبي الطَّيب؛ فمبلغ القُنع بأبي الفتح يجيزُ له أن يذهب في سكَّة التَّفسير ما شَاء.
وقد كان أبو الطيب يتحامَى بأبي الفتح إذا ما مسَّت حاشيةَ شعره سهامُ النَّقدة، ويجدُ فيه ملاذًا مكينًا مِن النَّطقة بآلة التَّقعيد المكبِّلة لجموح إبداعِه؛ ففي (وفيات الأعيان): “سأل شخص أبا الطيب المتنبي عن قوله: بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا؛ فقال: كيف أثبت الألف في (تصبرا) مع وجود (لم) الجازمة، وكان من حقه أن يقول: لم تصبرِ، فقال المتنبي: لو كان أبو الفتح هاهنا لأجابك”.
وقد بلغ من لِين أبي الطَّيب بصاحبه أبي الفتح، أنه كان يستنطق استحسانَه بشعره، ويرومُ بصنعته التي ملأت الخَافقين وشغلت الثَّقلين عُجب هذا الفتى الموَافي؛ فقد رُوي عن المتنبّي، أنّه قال له: “أتظنُّ أنَّ هذا الشعر لهؤلاء الممدُوحين؟! هؤلاء يكفيهم منه اليَسير، وإنَّما أعمله لك لتستحسنه”؛ فأيُّ رقَّة وهَدَأة وترضٍّ يسوقُها أبُو الطيب لصاحبه غُنما وظَفرا به، وهو الذي لاقى المنيَّة واستجلب العِداة وشظَّى الصِّلات، عزةً وكبرًا وأنفةً؟!
وفي الطَّرف الآخر، لم يكن أبو الفتح ابن جني بأقلَّ من ذلك؛ بل كان زهوُه بشيخه، وتفاخره بفرائده، وتباهيه بخرائده، ليُسطر به المثل السَّائر في وفاء وعطاء الرَّاوي عن المرويِّ عنه؛ ولا أحسب شيخًا على كرسيِّ تدريسه، ولا أستاذًا في صَومعة بحثه، ولا معلمًا بين فِئام المستملِين؛ إلا وهو يؤمِّل أن يَرى عُشر مِعشار ما رآه المتنبي من وَفائية وعَطائية ابنِ جني؛ رحمهما الله.
فمن الأحاديث الماتعةِ عن هذه الثُّنائية الرَّائعة؛ ما ساقه البديعيُّ في (الصُّبح المنبي)، أنَّ شيخَ أهل النَّحو واللغة أبا علي الفارسي كان بشيراز، وكان ممرُّ المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي، وكان إذا مرَّ به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء، وكان لابن جنى هوى في أبي الطيب، لا يبالي بأحدٍ يذمه أو يحط منه، وكان يسوؤه إطناب شيخه أبي علي في ذم صاحبه أبي الطَّيب، واتفق أن قال أبو علي يومًا: اذكروا لنا بيتًا من الشعر نبحث فيه؛ فبدأ ابن جني، وأنشد:
حُلتِ دونَ المزارِ فَاليَومَ لَو زُر تِ لَحالَ النُحولُ دونَ العِناقِ
فاستحسنه أبو علي واستعاده، وقال: لمن هذا البيت؛ فإنَّه غريب المعنى؟ فقال ابن جنى: للذي يقول:
أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي
فقال: والله هذا أحسن! بديع جدا! فلمَن هما؟ قال: للذي يقول: … وما زالَ به، حتَّى قال أبو علي: والله لقد أطلت يا أبا الفتح، فأخبرنا مَن القائل؟ فقال: هو الذي لا يزال الشَّيخ يستثقله، ويستقبح زيَّه وفعله، وما علينا من القشُور إذا استقام اللب، فقال أبو علي: أظنُّك تعني المتنبي، قال: نعم”.
وقد أثمرت هذه المصالحةُ الأدبية التي قادها ابنُ البر والوفاء بشيخيه بينَ شيخيه، أن أدرج أبو علي شعرَ أبي الطيب في (تذكرته)، والتي لا يكتبُ فيها إلا أَعالي مختاراته وأَعاجيب منتقياته.
ثم تتجسَّد صورةٌ أخرى من ثنائية هذا العطاء المعرفي بين هذين الرُّكنين الشَّامخين في مَطاف الأدب وحطيم القَريض؛ فأبو الفتح راوية ديوان المتنبي، والصَّادح به، وشارح إمتاعاتِه، وموجه إشكالاتِه؛ ففي (شذرات الذهب) لابن العمَاد: “وشرح ابنُ جنِّي – أيضًا – (ديوان المتنبي) شرحا كبيرا، سمّاه (الفسر)، وكان قد قرأ (الدِّيوان) على صاحبه”؛ وهذا الشَّرح هو (الفسر الكَبير)، وشرحه ثانية في (الفتح الوهبي)، وهو الفسر الصَّغير؛ فقاد بذلك زِمام شروح (الدِّيوان) من بعده، وكان أبو الفتح فتحًا على كل من عُني بلوذعيِّ الشِّعر أبي الطيب.
وقد استوقفني في نُصوص ابن جنِّي الشَّارحة للدِّيوان؛ ذلك الولَه والزَّهو بشعر المتنبي، والذي لا يكادُ يبارح رائعةً من تلك اللُّحون، إلا وخطَّ بماء مُهجته قبل مِداد محبرته أنفاسَ التَّلذذ وأعباقَ التَّرضي عن قصيد أبي الطَّيب؛ ومن ذلك تعليقُه على هذين البيتين:
نَطَقَت بِسُؤدُدِكَ الحَمامُ تَغَنِّياً وَبِما تُجَشِّمُها الجِيادُ صَهيلا
ما كُلُّ مَن طَلَبَ المَعالِيَ نافِذاً فيها وَلا كُلُّ الرِجالِ فُحولا
إذ قال ابن جني: “أَشْهَدُ لَو أنَّهُ خَرَسَ بَعْدَ هَذَينِ البَيتَينِ؛ لَكَانَ أَشْعَرَ النَّاسِ، والسَّلامُ”.
ثم في مشهدٍ خاتمٍ لهذه الثنائية الصَّادقة، والنَّاطقة بمكنونٍ عزَّ في شرُكاء المعرفة، وندَّ عن أهل المنادمَة: نجدُ أنَّ أبا الفتح، وهو المقلُّ في الشعرِ، حتَّى قال الثَّعالبي: “وكان الشعرُ أقلَّ خلاله؛ لعظم قدره، وارتفاع حاله»، نجدُ أنَّه لم يَقنع وقد تخطَّف سهمُ المنية رفيقَ تلك الأيَّام السَّالفات، حتى يقطعَ طبعَه، ويُؤالف الشِّعر بعد جَفوة؛ حتى إنَّ البَاخرزي في (دُمية القصر)، تفاجأَ من ذلك، فقال: “وما كُنت أعلم أنَّه ينظم القَريض، ويسيغ ذلك الجريض، حتى قرأتُ له مرثيةً في المتنبِّي”، وأتركُ – في آخر هذا المقال – القارئَ الكريمَ مع منتخبٍ من هذ المرثيةِ، الشَّاهدة على ثنائيةٍ رائدةٍ ومنتجةٍ في سياقةِ المعرفة الأدبيَّة:
غَاضَ الْقَرِيضُ وَأَوْدَتْ نُضْرَةُ الْأَدَبِ وَصَوَّحَتْ بَعْدَ رِيٍّ دَوْحَةُ الْكُتُبِ
وَقَدْ حَلَبْتَ لَعَمْرِي الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ تَمْطُو بِهِمَّةِ لَا وَانٍ وَلَا نَصِبِ
مَنْ لِلْهَوَاجِلِ يُحْيِي مَيْتَ أَرْسُمِهَا بِكُلِّ جَائِلَةِ التَّصْدِيرِ وَالْحِقَبِ
أَمْ لِلْجَحَافِلِ يُذْكِي جَمْرَ جَاحِمِهَا حَتَّى يُقَرِّبَهَا مِنْ جَاحِمِ اللَّهَبِ
أَمْ لِلْمَحَافِلِ إِذْ تَبْدُو لِتَعْمُرَهَا بِالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْأَمْثَالِ وَالْخُطَبِ
أَمْ لِلْمَنَاهِلِ وَالظَّلْمَاءُ عَاطِفَةٌ يُوَاصِلُ الْكَرَّ بَيْنَ الْوِرْدِ وَالْقَرَبِ
أَمْ لِلْمُلُوكِ يُحَلِّيهَا وَيُلْبِسُهَا حَتَّى تَمَايَسَ فِي أَبْرَادِهَا الْقُشُبِ
فَاذْهَبْ عَلَيْكَ سَلَامُ الْمَجْدِ مَا قَلِقَتْ خُوصُ الرَّكَائِبِ بِالْأَكْوَارِ وَالشُّعُبِ
التعليقات
اترك تعليقاً