أَقامت رئاسة الشُّؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، ندوةً متميزةً في جميع أُطرها العلميَّة والبحثيَّة والإعلاميَّة والتنظيميَّة، وكانت هذا المحفلُ المشهودُ هو النسخة الثانية من “ندوة الفتوى في الحرمين الشَّريفين، وأثرها في التَّيسير على قاصديهما”؛ والتي أُقيمت في المسجد النَّبوي لأول مرَّة، وبموافقة ملكيَّة كريمة، ورعاية من أمير منطقة المدينة المنوَّرة؛ وبالتَّنسيق مع الرِّئاسة العامة للبحوث العلميَّة والإفتاء، والأمانة العامة لهيئة كبار العلماء.
وقد شهدت أروقة وجنبات المسجد النَّبوي، في الفترة ما بين 23 – 25 من شهر صفر لهذا العام 1446هـ؛ ذلك التَّوافد المبهج للحشُود العلميَّة والشرعيَّة؛ من أعضاء هيئة كبَار العلماء، وأئمة وخُطباء الحرمين الشريفين، وأساتذة الجامعات والمؤسَّسات المعنية بهذا الشَّأن، كما تدبَّجت صفحة أعمال وجلسات هذه النَّدوة بموضوعات وأطروحات شرعيَّة وتخصصيَّة، تتعاظم أهميةً وأثرًا على المخرجِ والمنتجِ الفقهي وشُؤون الفتوى والإرشاد؛ كبيان منزلة الفتوى في الحرمين الشَّريفين، وحجم أثرها في تعزيز مكانة هاتين البُقعتين المبَاركتين وهذه البِلاد المعطَاءة، وتأصيل منهج الفتوى في العهد النَّبوي والقُرون الفاضلة، وتقديم عددٍ من التَّطبيقات في الفتوى على ضوء المنهج النَّبوي، واستلهام منهج فقه التَّيسير، وتفعيل مقاصد الشَّريعة، وتوظيف دَور المرأة، ومواكبة وسائل التَّواصل الاجتماعي والثورة التقنيَّة، وتطويعها في خدمة فتاوى الحرمين الشريفين وقاصديهما.
وقد اختتمت هذه الندوةُ أعمالها، برفع برقيَّة شكر وامتنان وتقدير وعرفان لمقام خادم الحرمين الشريفين ولسمو ولي عهده الأمين حفظهما الله، على الدَّعم غير المحدود للحرمين الشريفين وقاصديهما، وعلى الموافقة الكريمة لإقامة هذه الندوة، واصلين شكرهم لسمو أمير منطقة المدينة المنورة وسمو نائبه على الرعاية والتَّشريف؛ وكان من أبرز التَّوصيات المنبثقة عنها: إبراز الدَّور الريادي لرسالة الحرمين الشريفين العالمية في الفتوى ومكانتها، وحرص المملكة العربية السعودية على تيسير الفتوى لقاصدي الحرمين، والمحافظةُ على سلامة أفكار المجتمع – ولا سيما قاصدي الحرمين الشريفين – بالفتاوى الصحيحة، والحرص على ربط الفتاوى بأدلة الكتاب والسنة، وما صدر عن المجامع الفقهية، وقرارات هيئة كبار العلماء، وما جرت عليه الفتوى، والبُعْد عن الآراء الشاذة، والأقوال المهجورة… إلى غير ذلك من التَّوصيات؛ والتي يُؤمَّل فيها التقدُّم بهذا القطاع الرَّائد من مؤسساتنا الحكوميَّة، إلى تحقيق مستهدفاته وتطلُّعات القيادة الرشيدة.
إنَّ هذه النَّدوة ومثيلاتها من التَّظاهرات العلميَّة والشرعيَّة؛ والتي تجمع المهتمِّين من كل التخصصات المتَّصلة، وتسلط الضوء على شُؤون الفتوى والإرشاد بالحرمين الشَّريفين، وتستلهم من ذلك الرُّؤى والأطروحات والمبادرات التَّطويرية والمواكبة لحاجيَّات العصر المتجدِّدة، مع انضباطٍ وتمسكٍ بالأصول والمقرَّرات الثابتة والانطلاق منها إلى كل علميات الاجتهاد والتجديد؛ إنَّ مثل هذا لهو جهدٌ يتوازى مع حجم الشرف العظيم والمسؤولية الغراء بخدمة هاتين البقعتين الطاهرتين، والتي لا تَتَوانى حكومة خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله وسدَّده، عن الدَّفع بكل الإمكانيَّات والمقدَّرات، وتسخير الكفاءات والأيدي المخلصة لهذا المجد الخالد إلى قيام الساعة.
إنَّ ما شهدناه في هذه النَّدوة؛ مِن استقطاب الكفاءات الشرعيَّة والقامات العلميَّة الموثوق بها والمخبورة في شؤون الفتوى والإرشاد، وصناعة التَّكامل والتَّعاضد المعرفي والتَّجاربي بين مؤسسات الدولة، كما كان ذلك في التعاون المنظوم نسقه والمنظور بتقدير، بين رئاستي البحوث العلميَّة والإفتاء والشُّؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، واستحضار المقاصد العُليا والمحكمات الكُبرى والمبادئ الشرعيَّة والوطنيَّة، والانطلاق منها لتأسيس فقه الفتوى في الحرمين الشَّريفين؛ ذلك الفقه الذي لا يبارح نهج النُّبوة، ولا يتكلَّف مسارب التنطُّع والعَنَت، ولا يتتبَّع خيالات المجاهيل وأشباح الشُّذوذات، ولا يقف جامدًا في سكنةٍ ممقوتةٍ أمام عجلة النَّهضة السَّائرة ومصدَّرات التَّقنية المتسارعة.
إنَّ بلادَنا المرعيَّة بحفظ الله، وما أُوتيته مِن صدارة مستحقَّة للمشهد الإسلامي، وما قدَّمته في سبيل الحفاوة والاعتناء بهذا الدِّين، وحماية حوزتِه وتأهيل حملتِه، لنشهده على أصعدة كثيرة، ونتراءاه جَليا مُبصرا سامقًا باسقًا في أنحاء متوافرة؛ فهذه مؤسسات التَّعليم العالي، بكلياتها الشرعيَّة والدعوية، ومخرجاتها البحثيَّة والطلابيَّة، وهذه المؤسسات الدينيَّة الرائدة في هذه البلاد، وخدمة الشَّأن الشرعي والإفتائي؛ كالأمانة العامَّة لهيئة كبار العلماء، ورئاسة شؤون الحرمين الدينية، ورابطة العالم الإسلامي، ووزارة الشؤون الإسلامية؛ سدد الله جهودهم، وحقق مقاصدهم.
وفي خاتمة هذا المقال… نبعثُ الشكر عاطرا، بعد شكر الله عز وجل؛ لهذا المحفل الشرعي الإفتائي، ولكل فردٍ مخلصٍ كريمٍ أسهم في الرفع من شأنه ومن شأن بلادنا ومقدَّساتنا، ويُخصُّ من هذا الشُّكر ذلك الفريق المميز والمعطَاء في رئاسة الشُّؤون الدينية بالحرمين الشريفين، وفي مقدَّمهم معالي الأستاذ الدكتور: عبد الرحمن بن عبد العزيز السُّديس؛ الرئيس العَام، وإمام وخطيب المسجد الحرَام.
ثم إنَّه مما يعرضُ من سوانح الفُرص ويتهيَّأ من فواتح العَطايا، والتي يُلهمها مثل هذا التَّظاهر الرَّائد؛ أن يتوالى الإسهام في خدمة قطَاع الفَتوى والعَاملين فيه، وأن نرى من سَعة المبادرات وتَنوعها وتعلُّقها بكافة المسَارات المتصلة، ما يضمن التَّميز والصَّدارة للحرمين الشريفين في التَّيسير والتَّذليل على القَاصدين؛ فلو أسهمت – مثلًا – الجامعات في تضمين قضايا الإفتاء في المقررات النظرية والتطبيقية، واختطَّت مسارا بحثيا فاعلا في هذا الاتِّجاه، ودفعت بالرسائل العلميَّة والأبحاث الأكاديميَّة إلى إحيائِه وإثرائِه، ومن المبادرات المعطاءة: إقامة المؤتمرات والنَّدوات، وتنفيذ الدبلومات المهنيَّة للعاملين في هذا القطاع، وتأسيس الكَراسي والمنح البحثيَّة الخادمة والنابضة بالمستجدَّات المعرفيَّة للوسط الإفتَائي والمجتمع الشَّرعي.
التعليقات
اترك تعليقاً