بالحياة نلتقي بالكثير نعاشرهم عن قرب، حينها تكون الصورة أوضح بكثير وتتباين بعض الصور عن بعضها الآخر. نراهم مختلفين من نواحٍ عديدة، ولكن هناك نواحٍ مهمة وواضحة وضوح الشمس تظهر في أسلوب التعامل. فالبعض تكون تصرفاتهم منافية للمنطق شكلًا وتفصيلًا، أسلوب يفتقر إلى الرقي والسماحة. البعض منهم يظهر قبح روحه بشكل أو بآخر، نرى منهم وجهين متناقضين: وجه نعرفه ووجه آخر يظهر عند إحسانك له.

عرفتها من بعيد قبل عدة سنوات، شخصية يتضح لمن ينظر إليها من بعيد أنها شخصية وقورة ذات ثقل ورزانة. كنت أراها شبه يومي، تبادلني التحية والسلام بابتسامة عريضة وتسأل عن الحال متلطفة، ومن ثم تغادر. لم يدُر بيننا أي نقاش مسبق أو حديث مطول عن أي أمر من أمور الحياة. ولكن مع مرور الوقت ومشيئة القدر، اقتربت من تلك الشخصية بشكل كبير جدًا وأصبح التعامل مباشرًا معها للغاية. من هنا بدأت تتضح الرؤية شيئًا فشيئًا، وبدأت كل الأمور تظهر بشكل أصفى. ومع وضوح تلك الرؤية أمامي، بدأت أستوعب أن تلك الشخصية هي إنسانة فقاعة بكل معنى الكلمة، تقنعت بلثام البراءة والوقار والسماحة ولكن بدون مضمون.

أدركت بكل بساطة أن ذلك الوجه الذي رأيته بأول لقاء واعتقدت أنه حقيقي من الوهلة الأولى لم يكن كما ظننت. فبعد اللقاء الأول والثاني والثالث وبعد الحوار معها والنقاش، إذا بتلك الفقاعة تنفجر وتظهر الحقيقة جلية أمامي. اكتشفت أن تلك الشخصية ما كانت إلا فقاعة لا أكثر، فارغة تمامًا من أي محتوى. كل الأشياء التي كانت تظهرها لمن حولها لم تكن حقيقية البتة. لم تكن الكلمات صادقة، ولا الفكر ناضج، ولا التصرفات موزونة، ولا الحديث مرن. باختصار، كانت شيئًا مزيفًا بعيدًا عن حقيقته تمامًا.

قلب يتشح بالسواد وسوء ظنون وخصال مقيتة منفرة لأبعد حد.

من الطبيعي جدا في ممرات هذه الحياة أن نلتقي بالكثير من الأشخاص في شتى الأمكنة. بعضهم قد نظن أنهم قمة في الأخلاق والتعامل لأنهم أبهرونا في بداياتهم بأسلوبهم الجاذب، سواء في الحديث المنمق أو حلاوة اللسان التي نعتقد بعدها أنهم أشخاص غير عاديين.

شخاص نقدرهم وندخلهم لحياتنا بكل ترحاب، تطمئن قلوبنا لهم عند لقائنا بهم، نفرح ونسعد بذلك اللقاء، نستمع لهم بشغف. ولكن بعد ذلك القرب والتعامل معهم، وبعد العديد من المواقف، نكتشف عيوبهم التي تطغى على إيجابياتهم وتتحكم بشخصياتهم. ومع الوقت، نلحظ منهم صفات تشمئز لها النفس، حيث سرعان ما ينكشف مدى الكذب والغش والنفاق الجلي والصارخ. ما تلبث تلك الشخصيات إلا أن تسقط سقوطًا مدويًا من أعيننا، سقوطًا لا يعادله أي سقوط. شخصيات سطحية فارغة وخاوية من المنطق والحكمة في كل شيء.

إن كنا نأسف يومًا على شيء، فإننا نأسف على كل لحظة جمعتنا بأمثالهم في هذه الحياة. وإن كنا نندم على شيء، فإننا نندم على تلك المساحات التي خصصناها لهم، وهم مع الأسف لم يكونوا ليستحقوها. لقد سقطوا من اعتباراتنا ولم يتبقَّ لهم أي حيز في دواخلنا. سقطوا بكل جدارة، فالسقوط درجات، وأدنى ذلك السقوط هو السقوط من العين، وتاليه السقوط من التفكير، وأقصى سقوط هو السقوط من القلب.

توصلت بعدها لقناعة تامة أنَّنا مهما التقينا بأشخاص في مشوار حياتنا، لابد أن نقابل من أولئك الأشخاص ولو البعض منهم شخصياتهم غير محددة. بارعون للغاية في تقمص ونسخ صفات غير صفاتهم، يحرصون أن تكون صفات حسنة. قد يخدعون الكثيرين، ولكنهم نسوا أن الله ينظر إلى القلوب، فمهما اجتهدوا في لبس الأقنعة، فوجههم الحقيقي مكشوف أمام الله.

لا تثقوا بأحد لمجرد أن أعجبكم حديثه، فالحياة أصبحت مظاهر، فبعض الأشخاص ظلهم أكبر من حجمهم الحقيقي بكثير.

أنا لا أقول إننا جميعًا يجب أن نصبح مثاليين، فنحن بشر نصيب ونخطئ، ولكن من الجميل أن يكون الفرد على سجيّته، وأن يكف عن تقمص الأدوار التي يبدو بها للآخرين. كمال الفرد في كونه هو فقط لا غيره. لا تُحاول أن تصنع لك أكثر من شخصية من أجل لفت انتباه الآخرين. فقط كن إنسانًا عفويًا بدون تصنع أو تكلف.

وبطبيعة الحال، حينما نملك المعتقد الصحيح تجاه أنفسنا، نستطيع أن نملكه تجاه الآخرين.

اتبع دائمًا بديهية شكسبير في علاقاتك بنفسك ومع من حولك حينما كتب: “كن صادقًا مع نفسك خاصة، واتبعها كما يتبع الليل النهار، وبهذا لن تكذب على أحد”.

ولنعلم جيدًا أن الأماكن على هذه الأرض ما هي إلا مؤقتة، ولا ريب أننا عابرون يومًا ما. فمن الجميل أن نكون أشخاصًا حقيقيين قولًا وفعلًا. إن الحياة بلا قيم أو مبادئ لا تساوي شيئًا.