كنت حينها في المرحلة المتوسطة ولا زلت أذكر ذلك اليوم جيدًا، عندما قامت إدارة المدرسة بعمل بازار للطالبات بغرض الترفيه عنهن، وخصص يوم في تلك السنة لذلك.

كم كانت فرحتنا بالغة أنا وزميلاتي بذلك اليوم؛ كونه يومًا مفتوحًا بعيدًا عن الدراسة والواجبات اليومية. تم تنظيم البازار، ووضعت المدرسة حينها العديد من الأركان التي اشتملت على الكثير من الأشياء، منها: التحف، والإكسسوارات، والأطعمة وغيرها الكثير من المعروضات. وكان من بين تلك الأركان ركن بعيد وبسيط للكتب.

مررت على كل تلك الأركان، ولم تشدني لا الإكسسوارات، ولا الأطعمة، ولا التحف، ولا غيرها مما كان معروضًا حينها. لا أعلم لماذا قادتني قدماي إلى ذلك الركن البعيد عن بقية الأركان، وحينها تسمّرت قدماي أمامه. لم يكن يقف بجانبه أحدٌ إلا أنا فقط وزميلة لي كانت تشدّني بقوة لنكمل المسير ونتجوّل في بقية الأركان. ولكني رفضت أن أتحرك من مكاني، وأخبرتها أن تذهب هي وتدعني عند ركن الكتب ذاك. وبالفعل تركتني وذهبتْ، وبقيت أنا أتفحّص تلك الكتب بعناية فائقة.

كان ذلك اليوم هو أول يوم في حياتي كلها أرى فيه كتبًا حقيقية غير الكتب الدراسية. بحثت بين تلك الكتب، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أمسك بكتاب كان اسم مؤلفه: مصطفى لطفي المنفلوطي. وكان اسم الكتاب: “النظرات”. طبعًا لم أكن أعلم من هو هذا الشخص، ولم أعرف عمَّ يتحدث الكتاب، ولكن ما أعلمه جيدًا أنه شدّني بمجرد أن وقعت عيناي عليه، واخترته من بين عدة كتب.

سألت عن ثمن الكتاب، وكان سعره حينها أحد عشر ريالًا، ولم أكن أملك منها إلا خمسة ريالات فقط، وهي مصروفي في ذلك الحين. أصررت على أن أقتنيه مهما كلف الأمر. طلبت من المعلمة التي كانت تقف على البيع أن تحجز لي هذا الكتاب، بينما أذهب أنا للبحث عمن يقرضني باقي ثمن الكتاب. وبالفعل تم حجز الكتاب، وذهبت مسرعة أبحث عن زميلتي لتقرضني الستة ريالات المتبقية لأكمل ثمن الكتاب. وبالفعل أقرضتني المبلغ، ويا لفرحتي حينها عندما حصلت على المبلغ. أخذت أسرع الخطى نحو ذلك الركن وقلبي يخفق بسرعة؛ خوفًا من أن يكون الكتاب قد بيع.

وصلت إلى الركن وأنا ألهث، وأعطيت المعلمة باقي المبلغ، فأعطتني الكتاب. شعرت حينها بشعور لم أشعر به من قبل، حقيقةً لا أعلم ماهيّة ذلك الشعور؛ كان شعورًا مختلطًا غير واضح المعالم. بعدما أخذت الكتاب، ذهبت أبحث عن مكان لأجلس فيه وأتصفح الكتاب بهدوء، ولكن كل الأماكن كانت مليئة بكمّ الطالبات والمعلمات. لم أجد إلا سلم المدرسة، كان خاليًا، وصعدت إلى أعلى درجات السلم الذي يؤدي إلى الطابق العلوي للمدرسة. جلست على درجاته مبتعدةً عن زحام الطالبات والمعلمات والجميع، مكتفية بكتابي.

أخذت أتصفح ذلك الكتاب الذي كان بين يدي بشغفٍ بالغ، لم أشعر بمن حولي من الناس، ولم أكن مدركة بأن الوقت يمر وينساب بسرعة؛ إلا حينما سمعت إحدى الزميلات تناديني بصوت مرتفع:
“لقد انتهى اليوم الدراسي، ألا ترغبين بالمغادرة؟”

بعدها فقط شعرت وأفقت وكأنني كنت في غيبوبة اسمها الكتاب. نهضت مسرعة نحو الباب مغادرة المكان، وكان لا يزال ذلك الكتاب بيدي، ممسكة به ولم أدخله في حقيبتي.

إنه الشغف الذي عشته في تلك اللحظات، والذي تمت ولادته من أول يومٍ وقعت عيناي على كتاب. من ذلك اليوم إلى يومنا هذا قرأت الكثير من الكتب بجميع أنواعها وتصنيفاتها. شعرت أن للكتب دفئًا عجيبًا. أصبحت متعتي أن أشتري كتابًا جديدًا أو عدة كتب خلال فترات قصيرة جدًا.

قرأت وقرأت ولا زلت أقرأ ولن أتوقف أبدًا. وجدت ضالتي بالقراءة، وجدت نفسي بالقراءة، وجدت عنفواني بالقراءة، وجدت تواضعي بالقراءة، وجدت شغفي الذي لا حدود له، وجدت حبي للحروف والكلمات والجمل، وجدت فخامة الفكر بالقراءة، وجدت كياني بالقراءة.

أعطتني القراءة ما لم يعطني إياه أي شيء آخر في الحياة. أعطتني العلم، أعطتني روحًا جديدة صافية، بعيدة عن الزيف. أعطتني الشفافية والوضوح الذي أفادني كثيرًا في أمور حياتي بمجملها. ميزتني القراءة بأشياء كثيرة جدًا. أصبحت روحي متوهجة، وأنظر لها دائمًا بعلو.

القراءة جعلتني دائمًا أجاهد نفسي بكل الوسائل والطرق للنهوض بها نحو السمو والرفعة. لا أنظر لذاتي بمنظار محدود الأفق، بل على العكس، أصبحت أنظر لتلك الذات بزهور.

هناك مقولة لمصطفى محمود يقول فيها:
“القراءة هي أن تذهب خارج حدود الزمان والمكان.”

ومقولة آرثر شوبنهاور حينما قال:
“لم تمر بي أبدًا أي محنة في حياتي لم تخففها ساعة أقضيها في القراءة.”

الكتاب آمنُ جليس، وأَسرُّ أنيس، وأسلمُ نديم، وأفصح كليم. وقد وصفه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال:
“الكتاب نِعْمَ الذُّخْر والعقدَة، ونِعْمَ الأَنيس ساعَة الوحدة، ونِعْم القَرين، والدَّخيل، والوزير والنَّزيل.”

ويقول الجاحظ أيضًا في وصف الكتاب:
“الْكِتَاب هُوَ الجَلِيس الذِي لا يطريك، والصَدِيق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يَملّك، والمستمع الذي لا يَستزيدك، والجار الذي لا يستعطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عِندَك بالملق، ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق.”

إنها القراءة يا سادة، ولا شيء يضاهي القراءة.