فضاءات القلم وحرملك القلم
في البدء كان القلم…
وحين خُلِق، لم يُخلق ليُحبس في قصر، ولا ليُدار من خلف ستار.
خُلِق ليطير في فضائه، يلامس السماء بالحبر، ويكتب للناس لا لهمس الصالونات المغلقة.
غير أنّ بعض الأقلام — وقد ملّها النور — قررت أن تُعيد الزمن إلى الوراء،
فصنعت حرملكًا من الحبر، لا يُسمع فيه إلا الهمس، ولا يُرى فيه إلا ما يُسمح برؤيته.
في فضاءات القلم تتعانق الكلمات كما تتعانق الأرواح في حريةٍ طاهرة،
لا تُفرّق بين رجلٍ وامرأة، ولا بين قلمٍ قديمٍ وجديد.
هناك، تشرق الكتابة من صدق التجربة، لا من ضوء الكاميرا.
لكن في حرملك القلم، تسكن الحروفُ في أبهاءٍ من حرير،
تتدلّى من السقف مشكاةٌ تضيء بقدر ما يأذن به المزاج،
وتتحرك الأقلام كجواري في درسٍ من دروس الطاعة،
يتعلّمن فنَّ الالتفات أكثر مما يتعلّمن فنَّ الكتابة.
في ذلك الفضاء المسقوف بالهمس،
تسير الكلمة على رؤوس أصابعها كي لا توقظ الغيرة،
وتُروّى القصائد بالعطر قبل أن تُروى بالحبر،
أما المجالس فتمتلئ بأحاديث لا تشبه الأدب،
بل تشبه رقص الظلال على جدرانٍ تعرف الأسرار ولا تبوح بها.
في حرملك القلم،
لا صوتَ يعلو على سكونٍ مدهونٍ بالمجاملات،
الضوء يأتي من جهةٍ واحدة،
ومن يخالف اتجاهه يختفي وجهُه في الظل.
كل شيءٍ محسوب: الخطوة، والابتسامة، وحتى الصمت،
فما يُقال هناك لا يُكتب، وما يُكتب لا يُقرأ.
ومن خلف الستائر الحمراء،
ينساب همسٌ طويلٌ يشبه الدعاء،
ويُعلّق على الجدار مرآةٌ لا تُظهر الوجوه، بل تُعيدها كما يريدها الضوء.
تُلقى القصائد كقِطع من الحرير،
وتُلمّع الحروف بالثناء قبل أن تجفّ،
وتجلس الأقلام في صفوفٍ منتظمةٍ تنتظر من يشير إليها بالعَطف.
ومَن كان صادقًا أكثر من اللازم،
يُطلب منه أن “يستريح قليلًا من الجِدّ”،
ففي الحرملك لا مكان للجدّ،
ولا للحروف التي لا تعرف الزينة.
ولأن حرملك القلم لا يعيش إلا على ظلاله،
فهو يخاف من الحبر إذا سال بلا إذن،
ومن فكرةٍ تمرُّ كنسمةٍ لا تستأذن الحارس.
كلُّ من يخرج من بابه يُنسى اسمه،
لكنّه في الخارج يجد الفضاء الحقيقي،
حيث لا سلطان إلا للحرف،
ولا قانون إلا الصدق.
الكتابة — حين تصدق — لا تعرف الستر،
ولا تُعلّق على جدارٍ لتزيين الحضور.
هي ابنة الضوء، وخصمٌ للحرير الكاذب.
وحين تعود إلى فضائها،
تكتشف أن القصور، مهما ازدان رخامها،
تظلّ خاوية من المعنى إن لم يمرّ فيها حرفٌ حرّ.
فلتبقَ الأقلام في فضائها،
وليدُرْ الحرملك حول نفسه ما شاء؛
فالتاريخ لا يكتب أسماء من خبّأوا الضوء،
بل يخلّد من ترك ستائره تُفتح على الريح،
وقال للحرف وهو يرحل:
«اكتبْ، ولو على الحرير.»





