واو الجماعة.. حين يسقط الفعل
لم تكن واو الجماعة حرفًا عابرًا في دهاليز اللغة، بل كانت شجرةً قديمة تتكئ عليها الأفعال كي تُثبت وجودها.
حرفٌ كان يشبه يدًا تمتدّ من آخر الفعل لتقول له:
أنت لست وحدك… أنت حركة جمعٍ لا حركة فرد.
كانت الواو تُذكّرنا أن الحياة تُبنى بـ “نحن”، وأن الفعل لا يكتمل إلا حين يتشارك الناس حمله، كما تتشارك الأمواج دفع السفينة في عرض البحر.
فـ ذهبوا، شاركوا، حضروا، اجتمعوا لم تكن يومًا مجرد صيغ نحوية، بل كانت سلوكًا اجتماعيًا يمدّ جذوره في القلوب قبل السطور.
لكن… حين تغيّر الزمن، لم تتغيّر القواميس بقدر ما تغيّر الإنسان.
كبرت البيوت واتسعت، وصغرت الأرواح وتباعدت.
تجاورت المنازل ولم تتجاور القلوب، وصار كل واحد منا يعيش في غرفةٍ منعزلة، متصلاً بالعالم كله…
ومنفصلًا عمّن يجلس معه في البيت ذاته.
صرنا نكتب في اللغة: ذهبوا بينما في الواقع لا يذهب أحد.
ونقول: حضَروا بينما الحضور مجرد صورة في مجموعة واتساب، أو تعليقٍ سريع لا يشبه اللقاء ولا يقترب من دفئه.
وتحوّلت الجماعة من مفهومٍ وجدانيّ إلى “قائمة أسماء” في جهازٍ صغير يدّعي أنه جمع الناس… بينما هو لم يجمع إلا إشعاراتهم.
لم تكن واو الجماعة تتخيّل يومًا أنها ستبقى وحيدة في آخر الفعل تنتظر من يلتصق بها…
فلا تجد إلا فراغًا يشبه فراغ المجالس الحديثة، التي امتلأت بالأثاث وخَلَت من الوجوه.
أصبحت الواو تشبه جسورًا بلا عابرين، وصارت الجماعة التي كانت تُحاكم الأفعال مجرد ظلالٍ تتهادى بين جدران المنازل التي أغلق كل فرد باب غرفته فيها وأغلق معه باب قلبه.
باتت الأفعال اليومية تُدار عبر الشاشات، وصار اللقاء يُختصر في مكالمة، والصلة في “إعجاب”، والجلسة في “مساحة صوتية”، واجتماع العائلة في رسالةٍ مسجَّلة تُرسل بديلًا عن الحضور الحقيقي.
وهنا سقط الفعل… لا نحويًا، بل مجتمعيًا.
سقط حين فقدت الجماعة دورها، وحين أصبحت الواو بلا روح ولا فعلٍ يسندها، فبدت كعلامةٍ حزينة تقف خلف أفعالٍ لا تُمارَس ولا تتحقق في الواقع.
ورغم كل هذا، لا تزال الواو تؤمن بسرّها القديم: أن الفعل لا يُولد كاملًا إلا حين يتشارك الناس حمله، وأن الجماعة ليست إضافة صوتية بل إضافة روحية لا تستقيم الحياة من دونها.
وأن المستقبل — مهما ابتعد —
يمكن أن يعود إلى ضمير الجمع إن عاد الناس لبعضهم قبل عودتهم إلى أجهزتهم، وإن أدركوا أن أخطر سقوطٍ في اللغة ليس سقوط الحرف… بل سقوط المجتمع حين يفقد كلمة: معًا.





