Slaati
الدكتور خالد الحبشان

حوكمة التراث.. الصياهد نموذج سعودي في إدارة الأصالة والتنمية

منذ 2 ساعة01588

مشاركة

في عمق الصحراء، حيث يلتقي صفاء الرمال بأصالة الإنسان، تنبض الصياهد كقلبٍ نابض للهوية السعودية المعاصرة، وميدانٍ يجسد التوازن بين الأصالة والطموح، وبين التراث والتنمية. ليست الصياهد مجرد تجمع للإبل أو مهرجانًا سنويًا؛ إنها نموذجٌ وطني في تحويل الإرث إلى قوة اقتصادية وثقافية متنامية، ومختبر عملي لمفاهيم الحوكمة في إدارة التراث الوطني. هنا تتلاقى القيم مع الكفاءة، ويتحوّل الحب للإبل من رمزٍ بدويٍ أصيل إلى منظومة متكاملة من التنظيم، الشفافية، والاستدامة.

تُعد الصياهد اليوم نموذجًا فريدًا في كيفية حوكمة حدثٍ تراثي ضخم، إذ استطاعت أن تبني لنفسها سمعة عالمية قائمة على العدالة في التحكيم، والمهنية في التنظيم، والنزاهة في المنافسة، وهي مبادئ تمثل جوهر الحوكمة الحديثة. فالحدث الذي يستقطب آلاف المشاركين والزوار، ويتعامل مع استثمارات بملايين الريالات، يحتاج إلى منظومة متكاملة من التشريعات والرقابة والإفصاح والمسؤولية. هذه المبادئ التي كانت حكرًا على الشركات المالية والمؤسسات الكبرى، أصبحت اليوم جزءًا من DNA الفعاليات التراثية في المملكة، بفضل الرؤية التي ترى في التراث مشروعًا تنمويًا لا يقل شأنًا عن أي قطاع اقتصادي آخر.

من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الصياهد بوصفها حالة تطبيقية فريدة لما يمكن تسميته “حوكمة التراث”، وهي فكرة حديثة تقوم على تحويل الفعاليات التراثية إلى كيانات تحكمها مبادئ الشفافية والمساءلة والاستدامة. فحين تكون المنافسة في الصياهد عادلة وواضحة، وحين تُدار الموارد والرعايات بمعايير احترافية، وحين تُبنى العلاقات بين المنظمين والمشاركين والمستثمرين على الثقة والمصداقية، فإننا أمام نموذج متقدم من الحوكمة المجتمعية التي تعزز الانتماء وتبني الثقة في المؤسسات.

وفي جانب آخر، فإن الصياهد ليست فقط حدثًا تراثيًا، بل منصة اقتصادية واعدة يمكن أن تفتح مجالات جديدة للاستثمار في قطاعاتٍ متعددة. فالإبل لم تعد مجرد موروث ثقافي، بل أصل اقتصادي يمكن توظيفه في مجالات متنوعة مثل الصناعات الغذائية والدوائية، والسياحة الصحراوية، والفنون، والتقنيات المرتبطة بالتربية والعناية. هنا تبرز أهمية التفكير في إنشاء صناديق استثمارية متخصصة في قطاع الإبل، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي ترتبط به، سواء في إنتاج الأعلاف أو الخدمات البيطرية أو الصناعات التحويلية. كما يمكن للصياهد أن تكون نواةً لمركز وطني للابتكار في مجالات استدامة الثروة الحيوانية الصحراوية، بما يتماشى مع توجهات الاقتصاد الأخضر ورؤية المملكة 2030.

الفرصة كذلك قائمة أمام القطاع الخاص للدخول في شراكات استراتيجية مع المهرجان، سواء عبر الرعاية، أو تطوير البنية التحتية، أو تقديم حلول رقمية مبتكرة لإدارة الفعاليات والمشاركات. ويمكن لنادي الإبل أن يتبنى نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) ليجعل من المهرجان تجربة حوكمة متقدمة توازن بين الربحية والمسؤولية المجتمعية. فالحوكمة في جوهرها ليست بيروقراطية ولا قيودًا إدارية، بل هي فن إدارة التوازن بين المصالح المختلفة، وتحويل القيم إلى إجراءات، والطموح إلى إنجازٍ يمكن قياسه.

كما أن من المهم النظر إلى الصياهد بوصفها مركزًا للمعرفة، وليس فقط ساحة للمنافسة. فاستدامة النجاح تتطلب بناء منظومة معرفية حول الإبل والاقتصاد التراثي وإدارة الفعاليات. يمكن للمهرجان أن يحتضن برامج تدريبية وورش عمل في “حوكمة الفعاليات التراثية”، تجمع بين الأكاديميين والممارسين والمستثمرين، وتنتج دراسات وتقارير تسهم في تطوير هذا القطاع محليًا وعالميًا. كما يمكن إنشاء “مركز الصياهد للحوكمة والتراث”، يكون مرجعًا في تطبيق أفضل الممارسات في إدارة الفعاليات التراثية، ويعزز صورة المملكة كدولة تجمع بين الأصالة والحداثة بكفاءة استثنائية.

ولا يمكن إغفال البعد الإنساني في نجاح الصياهد. فكل فعالية مهما بلغت قوتها تحتاج إلى ثقة الناس، وهذه الثقة لا تُبنى إلا من خلال حوكمة واضحة. إن العدالة في تقييم الإبل، والشفافية في إعلان النتائج، والتنظيم المحكم لكل التفاصيل، تُكسب الحدث احترام المشاركين والزوار وتجعله نموذجًا يحتذى به. ومن هذه النقطة يمكن توسيع نطاق الفكرة لتشمل مفهوم “حوكمة التراث المجتمعي”، بحيث تمتد مبادئ الصياهد إلى بقية الفعاليات الثقافية والتراثية في المملكة، فتكون معيارًا وطنيًا موحدًا للشفافية والكفاءة في إدارة التراث.

ومع اتساع دائرة الحضور الدولي للمهرجان، تزداد أهمية أن تُدار الصياهد وفق أطر حوكمة مؤسسية تجعلها قادرة على استقطاب الاستثمارات والشراكات الدولية، وتعزز سمعة المملكة كمركز عالمي للتراث والثقافة والإدارة الفعالة. إن بناء ثقة المستثمرين والرعاة في أي فعالية يعتمد على وضوح الإجراءات والبيانات، وهو ما يميز الحوكمة الناجحة. ولأن الصياهد تجمع بين القيمة الرمزية والمردود الاقتصادي، فهي مؤهلة لتكون منصة عالمية لتبادل الخبرات في هذا المجال، وربما مستقبلًا مركزًا إقليميًا لتطوير معايير حوكمة الفعاليات التراثية.

كذلك، فإن الجانب البيئي جزء لا يتجزأ من حوكمة الصياهد، فالحفاظ على الصحراء، وتنظيم استخدام الموارد الطبيعية، وإدارة النفايات والاستدامة البيئية، كلها مكونات رئيسية في الحوكمة الحديثة. ويمكن للصياهد أن تقدم نموذجًا في “الاستدامة التراثية”، أي الحفاظ على البيئة التي نشأ فيها التراث نفسه، بحيث تبقى الصحراء نقية كما كانت، ويتحول الحدث إلى نموذج عالمي في دمج الثقافة بالاستدامة.

وفي النهاية، يمكن القول إن الصياهد ليست مهرجانًا للإبل فقط، بل مشروع وطني متكامل في الحوكمة والتنمية والاستثمار. لقد أثبتت أن الأصالة ليست نقيضًا للتطور، بل قاعدة له، وأن التراث حين يُدار بحوكمة واعية يصبح أداة من أدوات القوة الناعمة الوطنية. في الصياهد تتجسد رؤية المملكة في تحويل التراث إلى قيمة اقتصادية ومعرفية، وتتحول الحوكمة من مفهوم إداري إلى ثقافة وطنية يعيشها الناس ويفخرون بها. إنها قصة وطنٍ يكتب مستقبله من رمال ماضيه، ويضع للعالم نموذجًا في كيف يمكن للأصالة أن تُدار بالعقل، وللتراث أن يُستثمر بالمهنية، وللهوية أن تتحول إلى مصدر تنمية مستدامة.

التعليقات ()

مشاركة

أخر الأخبار

4544778b-a18e-4c1a-90ea-78e644bf9d07.jpg
ولي العهد يهنئ فيليب جوزيف بيير بمناسبة أدائه اليمين الدستورية رئيسًا لوزراء سانت لوسيا
الرياض
منذ 5 دقيقة
0
1350
5fcc8783-0e51-41ab-b0d8-91c89474997a.jpg
عماد السالمي لـ المسند: بما إنك في الزلفي هل تتعاقد مع يحيى خرمي أو نواف بوشل؟.. فيديو
الرياض
منذ 15 دقيقة
0
1384
56216d8d-81cd-489e-a9ee-478b1c45e01c.jpg
وظيفة شاغرة لدى مجموعة الحبيب الطبية
الرياض
منذ 17 دقيقة
0
1403
9c19853b-b1ae-49d3-9b78-c7e3a77a9a23.jpg
مقتل المخرج روب راينر وزوجته طعنًا بطريقة مروعة
وكالات
منذ 20 دقيقة
0
1414
4a86dcf2-24e7-4880-a87e-18a4df2be123.jpg
القادسية‬⁩ يوقع رسميًا مع المدرب الإنجليزي بريندان روجدرز
الرياض
منذ 23 دقيقة
0
1423
إعلان
مساحة إعلانية