من العلوم التي حذا فيها اليهود حذو العرب في العصر الأندلسي الزاخر, علوم اللغة, فقد تعلم اليهود اللغة العربية منذ بداية الفتح, وتعمقوا في علومها المختلفة لخدمة لغتهم العبرية التي كانت قد أشرفت على الاضمحلال, ولنترك القول في ذلك لواحد من أبناء العصر من علماء اليهود أنفسهم, وهو موسى بن عزرا, ليصف لنا حال اليهود مع الغة العربية حيث يقول: “تلقنت على لسانهم, وتبرعت في لغتهم, وتفطنت لدقة مراميهم, وتمرنت في حقيقة معانيهم, وأشرفت على عذوبة أشعارهم”.

هذا القول لموسى بن عزرا يبين أن اليهود منذ البداية أقبلوا على اللغة العربية فتعلموها وتعلموا على أيدي علمائها ونحوييها علوم اللغة والنحو والصرف حتى أمتلكوها وأستعانوا بها لإصلاح لغتهم العبرية التي كانت تعاني أزمة وجود وبقاء أنذاك.

والمتتبع لنشاط الحركة اللغوية بين يهود الأندلس لابد سيقف على العديد من المؤلفات التي كتبها أصحابها على نهج الدراسات اللغوية العربية, بل أن منها ما كتب باللغة العربية نفسها, ولعل من أوائل من سجلوا اهتماماً بعلوم اللغة وقواعدها في الأندلس هو مروان بن جناح الذي كتب كتاباً باللغة العربية أسماه (اللمع) على غرار كتاب ابن جني (اللمع في النحو).

وفي علم العروض الذي يتعلق بالجانب الموسيقي من اللغة, ذلك  العلم الذي يعتبر خاصاً باللغة العربية, لم يكن بعيداً عن اطلاع اليهود فيه, فقد أخذوا به ليصوغ الشعراء اليهود شعرهم بالعبرية والعربية على حد سواء, وأول من نظم الشعر المقفى والموزون وأدخل بحور الشعر العربي في اللغة العبرية هو دوناش بن لبراط اللاوي.

وهكذا فإننا نستطيع القول أن اليهود في الأندلس إنما كانوا تباعاً للعرب في الشعر وقد أشار إلى هذه الحقيقة موسى بن عزرا قائلاً: “لكن كما نحن في الشعر خاصة تابعة للعرب, وجب علينا أن نقتفي أثرهم ما استطعنا عليه”.

ويقول حاييم نحمان بياليك: “أن الشعر العربي الأندلسي صنعته بثقة أيدي ناظميه العظماء, الذين كانوا رجال رفعة وقوة وروح, جيلاً بعد جيل حتى جاء هذا الشعر كحصن هائل من المعجبات, يقف بجلالته كراية ودليل ريادة لجيل آخر وأن المتحدثين من إسرائيل الذين يذكرون بفخر كل الأزمنة حول الشعر الأندلسي تيبست ألسنتهم في أفواههم, فالكثير منهم لا يعرفون شيئاً عن الروائع التي جاء بها ذلك الشعر, وأضافها لتراثنا الإسرائيلي, فقد صمد صرح هذا الشعر لكل التيارات العاصفة عبر العصور, حيث كان قادراً على فتح أعين جمهور اليهود على بهائه ورفعته فيتهيج في جوانحه الشوق ليدخلها ويسكنها”.

هذه المقدمة البسيطة تحيلنا نحو عالم اللسانيات اليهودي الشهير نعوم تشومسكي وعلاقته بيهود الأندلس وبالأدب العربي في الأندلس عموماً, يقول الدكتور جاسم علي جاسم: إن تشومسكي عالم لغة يهودي وإن أباه عالم لغوي كذلك, وله اطلاع على اللغات السامية كالعربية والعبرية. ولقد كتب تشومسكي رسالته للماجستير عن الصيغ الصرفية في العبرية. والأكثر أهمية من ذلك, لقد قام اللغويون اليهود في الأندلس بكتابة قواعد لغتهم نحوياً وصرفياً على طريقة النحو العربي. فكان النحو العبري صورة طبق الأصل عن النحو العربي, والذي صيغ على هيئة النحو العربي, ومن ثم ترجم إلى اللغة العبرية واللغات الأوربية على أيدي علماء اللغة اليهود في العصر الأندلسي.

وكانت اللغة العربية وعلومها من نحو وصرف وبلاغة وغيرها تدرس بشكل رسمي في جامعة باريس في القرن الرابع عشر, وتسربت هذه المعلومات إلى المدرسة الفرنسية في القرن السابع عشر, واستفادت هذه المدرسة من النحو العربي ومدارسه والتي تأثر بها تشومسكي كما يعترف بذلك, فتجد في النحو العبري ظاهرة التقديم والتأخير والتأويل والحذف والزيادة وغير ذلك من الظواهر النحوية العربية, وهذه الظواهر اللغوية معروفة لدى تشومسكي وطبقها على اللغة الإنجليزية.

ومن أبرز المؤلفات التي تناولت علم اللسانيات هو كتاب الفارابي “إحصاء العلوم” وما ذكره في هذا الكتاب عن علم اللسان, يقول الفارابي: “فعلم النحو في كل لسان إنما ينظر في ما يخص لسان تلك الأمة, وفي ما هو مشترك له ولغيره, لا من حيث هو مشترك, لكن من حيث هو موجود في لسانهم خصوصاً”.

ويقول رئيس المجمع اللغوي الأردني الدكتور عبدالكريم خليفة: ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن (علم اللسان) قد وجد طريقه إلى أوربا من خلال كتاب “إحصاء العلوم” في وقت مبكر, سواء كان من طريق الترجمة إلى اللاتينية أو من طريق اللغة العبرية, إذ تشير المصادر أيضاً إلى أن كتب اليهود النحوية كتبت بالعربية, واستخدمت مصطلحات النحو العربي, فيحدثنا صاعد الأندلس بأن أبا الفضل حسداي من ساكني مدينة سرقسطة, ومن بيت شرف اليهود في الأندلس, من ولد موسى النبي عليه السلام, عُني بالعلوم على مراتبها, وتناول المعارف من طرقها, فأحكم على حد تعبيره “علم لسان العرب” ونال حظاً جزيلاً من صناعة الشعر والبلاغة, وكان “إحصاء العلوم” للفارابي معروفاً في المدارس اليهودية, وتشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن موسى بن عزرا انتفع به.

ويقول الدكتور خليفة: ونحن بدورنا سنكتفي بالإشارة إلى “الكليات اللغوية” وبالتحديد إلى “الكليات النحوية” التي تمثل على حد تعبير سامسون: جوهر منهج تشومسكي في دراسة اللغة, حيث طور فرضية الكليات النحوية حتى أصبحت نظرية أغنى وأعمق من نظرية ياكوبسون عن “الكليات الصوتية الوظيفية” وربما كان من الواضح بعد هذه الإشارات, أن نلمح في نسيج النظريات اللسانية في القرن العشرين خيوطاً لامعة ومهمة لنظرية “علم اللسان” العربي التي أرسى قواعدها الفيلسوف أبو نصر الفارابي في كتابه “إحصاء العلوم” ومن هنا كانت كليات تشومسكي النحوية واللغوية وليدة اجتهادات الفارابي ومتأثرة بها, ومضيفة إليها, حتى إنه أفاد من كتابه “إحصاء العلوم” كثيراً.