الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده و بعد:
فالابتلاء سنة كونية مقدرة على العباد و الصبر عليها من مقتضيات العبودية ، قال الله تعالى في كتابه الكريم : ﴿ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، كما أخبرنا قدوتنا و أسوتنا و حبيبنا محمد ﷺ حين قال: (أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما عليه من خطيئة)
وكتاب الله العزيز و سنة نبينا محمد ﷺ و كتب السيرة و التاريخ مليئة بالقصص لما جرى على الأنبياء و الرسل و الصالحين من ابتلاء و ما جرى عليهم من محن و ماواجهوا به هذه الابتلاءات و المحن من صبر .
و الابتلاء ليس بالضرورة أن يكون من الأعداء فقد يكون المُبتلي والطاعن لك من الخلف من أهل دينك و من بني جلدتك ،و إليكم هذه القصة التي حدثني عنها مباشرة أحد الإخوة الأفاضل الذي عايش أحداثها مباشرة مع صاحب القصة ، فقبل أكثر من خمسين عاماً أُبتلي أحد علماء المسلمين النابغين في مجال هندسة الطيران و الفضاء، في دينه و دنياه لأن هذا الرجل مع نبوغه العلمي كان متميزاً في الدعوة إلى الله .
كان ذلك هو الدكتور المهندس سيد دسوقي حسن حينما كان طالباً مبتعثاً من جامعة القاهرة لدراسة هندسة الطيران في الولايات المتحدة الأمريكية و استطاع أن ينهي دراسة الدكتوراة في مدينة ريفر سايد في كاليفورنيا قرب لوس أنجلس و بتفوق في مدة قصيرة جداً مع ظروفه الصحية و على الرغم من نشاطه الدعوي في أوساط الجالية المسلمة كمعلم و لغير المسلمين كداعية مؤثر ، بل كان مع زميله الطالب أحمد صديق عثمان من ( السودان ) سبباً بإذن الله في التحول الكبير للمسلم الأمريكي المشهور مالكوم إكس ، و أسسوا أكثر من اتحاد إسلامي كاتحاد الطلبة المسلمين و اتحاد تجمع مسلمي أمريكا الشمالية .

هذا العمل الدعوي الممميز و النشاط الاجتماعي غير المعتاد لم يرق لأوساط الغرب و لا لمخابرات البلد الذي ينتمي له الطالب المبتعث ، ومن بين الذين تولوا كبر هذاالعمل الناصريون من الطلاب الموفدين والملحقية الثقافية المصرية، وبدأوا ينفذون ما هددوا به، لقد كان الطالب قد قارب إنهاء الدكتوراه، فقطعوا عنه المنحةالدراسية ، وكان مصابًا في صمامات القلب، ومازال على سرير الجراحة، وإلى جواره زوجته وطفلاه، فكيف يصله الخبر وماذا يصنع؟
هل يحول المال دون استكماله لدراسته؟
هل تضيع تلك السنين وتلك الجهود التي بذلها في الدرس والتحصيل سدى؟
من كان الله معه فلن يضيع أبداً ، كان زملاؤه في البعثة من مختلف بلدان العالم العربي و الإسلامي بتوفيق الله معه في محنته و لم يقفوا مكتوفي الأيدي ، بادر مجموعة من زملائه للطلبة المسلمين برأيهم و تبنوا فكرة المساعدة لزميلهم النابغ في علمه ودراسته و الناشط في دعوته ، لماذا لا يبذل كل أخ من ماله 10 دولارات وأن يجمع من 20 أخًا لدعم أخيهم، و تحقق الأمر و استجاب الجميع ويستمر البذل شهريًا كالساعة دون توقف ، و لم يقف الأمر عند وقف دعم بلاده للمنحة بل تعدى ذلك لسحب الجواز، ويحرز هذا الطالب في هذه الظروف على تقدير ممتازً ، وتتكرر التجربة مع آخرين، ولعل بعض الإخوة الباذلين كان يقترض حتى يؤدي ما عليه تجاه إخوانه، إنه شعور الإخوة الصادق الذي جعل منهم بنيانًا مرصوصًا يشد بعضه بعضًا، خاصة وأن ذلك الظلم ما وقع عليهم إلا لأنهم قالوا ربنا الله .

لم يقف الأمر في الابتلاء و المضايقة لبطل القصة عند هذا الحد ، لكن الابتلاء جاء هذه المرة من طرف آخر إنه من البلد المضيف، لقد تسابقت الجامعات الأمريكية بطلب استقطاب الباحث و الدكتور المتميز كل يريد الظفر به و أولهم الجامعة التي تخرج منها كما عمل في شركة لوكهيد و قدم للشركة بحوثاً متميزة ، ولكن ال ( CIA) و كالة المخابرات الأمريكية علمت من قبل بأثره في أوساط الطلاب و مقدرته العلمية و جهوده الدعوية ، و عرفت ما يعانيه الدكتور في بلاده و ضغطت عليه بإرسال محقق من جهازها و أعطته صبغة موظف دار الهجرة( الجوازات) و أفاده المحقق بأن إقامته مخالفة بعد الدراسة و لا يمكنه العمل لأنه يخالف الغرض الذي قدم من أجله و الذي انتهى منذ أشهر ، و تكرر اللقاء وتحول من الترهيب إلى الترغيب حتى أفصح المندوب عن هويته و عرضه بأنه يمكن الضغط على حكومته( المصرية ) بتسهيل عودته و ضمان سلامته بل و تمكينه من منصب مرموق في سبيل أن يكون موالياً( عميلاً ) لبلادهم و يوافيهم بكل ما يخص العلاقات الروسية المصرية النشطة آنذاك ، فاعتذر منهم و هذا أمر يتنافى مع تعاليم دينه و مع مبادئه التي تربى عليها و يدعوا الناس إليها، و حينما يئس مندوب ( CIA ) في مهمته تلقى د دسوقي كتاباً بالبريد يتضمن إلزامه بمغادرة أمريكا خلال ثلاثة أسابيع.

الفرج مرة أخرى:
(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) هذا هو الوعد الحق فلم تضق على هذا الرجل ، لقد زار الملك فيصل رحمه الله في شهر ديسمبر ١٩٦٥م الولايات المتحدة الأمريكية -نيويورك-، و قبل أسبوع من التاريخ المحدد رغبت منظمة و اتحاد الشباب المسلم في أمريكا و هي منظمة طلابية أسسها المبتعثون للدراسة من أبناء العالم الإسلامي لقاء الملك و رتب لهذا اللقاء أيضاً بعض الدارسين من أبناء المملكة ك د عبدالرحمن بن عبدالعزيز آل الشيخ ( أصبح وزيراً للزراعة و وزيراً مكلفاً للصحة ) و تم اللقاء مع الملك فيصل رحمه الله،و اطَّرد حديث الملك نحو نصف الساعة مع الشباب ، و بينما كان بعض المرافقين للملك بطلب يشير للطلاب بإنهاء المقابلة، قال أحدهم: يشعر الإخوة أننا أطلنا، فيرد الملك: لا عليكم، ثم سَأَلَهم الملكُ عن حاجتهم، فقالوا: ما فكرنا في شيء من هذا، وإنما جئنا لنتشرف بالسلام على جلالتكم.

قال الطالب أحمد الآلوسي ( من العراق ) : إن كان ثمة طلب، وأنا لم أتشاور مع إخواني بخصوص هذا الطلب، فإن الحكومة المصرية تضغط على الملتزمين من الطلبة المسلمين المصريين، والدكتور سيد دسوقي حسن من أكبر العلماء على مستوى أمريكا في مجال هندسة الطيران، وقد نال تقديراً ممتازًا في كل المواد من جامعة ستانفورد، هذا الرجل سُحب جوازه من سفارة بلاده ، لا لشيء إلا أن يقول: ربي الله، ونحن نقول: وا فيصلاه كما قيل وا إسلاماه، لقد كان الأخ سيد قوي الحجة والبرهان، غزير العلم، إذا حاور العلمانيين أفحمهم، وإذا دعا غير المسلمين أقنعهم، فنادى جلالة الملك فورًا على معالي الدكتور أحمد زكي يماني، وأمر بإعطائه الجواز السعودي، وإذا أراد الدكتور سيد أن يُدرِّس في المملكة فأهلاً به وسهلاً، وبالفعل وصل المملكة ودرَّس في جامعة البترول لمدة عام ففرج الله كربته مرة أخرى .

و عن طريق زملائه الأساتذة الأمريكيين في جامعة البترول عاد د دسوقي لأمريكا و في جامعة ستانفورد نفسها و عمل في الجامعة و حصل على شهادة دكتوراه أخرى في الرياضيات و منح الإقامة النظامية فيها.

و في الوقت الذي سبق أن تم طي قيده من البعثة التعليمية في مصر و حكم عليه بالسجن غيابياً فقد عاد لها بعد وفاة عبدالناصر معززاً مكرماً بل و مستشاراً في كبرى الوزارات إبان حروب مصر مع إسرائيل ، و عمل مستشارًا فنيًا لأكثر من وزير دفاع عربي في فترة بناء الجيوش العربية، و ل د سيد دسوقي سجل علمي و عملي حافل فقد عمل مستشارًا لوزير الدفاع الجزائري في الفترة من 1971 – 1972، كما عمل مستشاراً لوزير الإنتاج الحربي المصري 1972 – 1973 ، وكان له دور بارز في التدريس لطلبة الكلية الفنية العسكرية بمصر قبل حرب أكتوبر 1973 ، و عمل أستاذًا مساعدًا بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية خلال نفس الفترة 1972 – 1973. و عاد للعمل في جامعة الرياض ( الملك سعود ) بالمملكة السعودية بكادر أستاذ، واستمر بها طيلة 1973 – 1976 ، ثم عمل أستاذًا بجامعة الملك عبد العزيز آل سعود خلال الفترة من 1976 – 1979، وعمل خلال تلك الفترة أيضًا مستشارًا لوزير التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية ، و هو رئيس قسم هندسة الطيران (1984 – 1990) ،و هو أول من درس هندسة الفضاء في كلية الهندسة بجامعة القاهرة ، و درس وأشرف على أكثر من ١٥٠ رسالة علمية من رسائل الماجستير في كل التخصصات في هندسة الطيران و الفضاء، و رفض المناصب و فضل البقاء على مقاعد التعليم و البحث العلمي و لا يزال حياً يرزق و يقدم بحوثه و استشاراته للمعاهد و الكليات المتخصصة.

هذه القصة أرويها مباشرة كما سمعتها ممن عايش هذا الرجل و زامله في أمريكا طالباً و زامله في مجال العمل الدعوي و على مقاعد البحث في الجامعات – متعهما الله-بالصحة و العافية و مد في عمرهما على عمل صالح و أحسن الله لنا و لهم الختام.