روي في كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم وكتاب روضة العقلاء للبستي أن آدم عليه السلام حين هبط إلى الأرض نزل إليه جبريل عليه السلام ومعه العقل والدين والحياء وقال لآدم اختر واحداً منها، فاختار العقل فقالا الدين والحياء أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان

ومن اللطائف في هذا الصدد أن الله سبحانه لما خلق الإنسان جعله في مرتبة بالنصف بين الملائكة والأنعام وجعل فيه العقل والشهوة، وأعطى الملائكة عقلاً بلا شهوة وأعطى الأنعام شهوة بلا عقل.. فإن حكّم الإنسان عقله على شهوته ارتقى للملائكة بل ربما لدرجة أعظم منهم لأنهم بلا شهوة، وأما إن طغت شهوته على عقله فكان أضل من البهائم لأنهم بلا عقل

فمتى ما رُزق المرء العقل والحكمة فقد أتاه الله الخير الكثير.. وإن من أعظم الجهل وقمة الخذلان أن ينظر المرء لنفسه بعيني الحكمة فيرى في نفسه عقل الحكماء ولب الأذكياء.. وقد قيل أن الناس جميعاً لم يرضوا بأرزاقهم وأموالهم مهما بلغت في حين أن الجميع رضوا بعقولهم وتفكيرهم بل بلغوا إلى درجة تجعلهم ينقدون كل من حولهم لأنهم لم يصلوا إلى درجة حكمتهم؟!

وإني اعترف اعتراف المقر بجهله وأنا على مشارف بضع سنوات من الأربعين أني كلما رأيت في نفسي عقلاً وبلغني العجب بحكمتي انحدرت بعدها إلى دركات الجهل وغياهب الحمق وبلغت مبلغاً لا يفعله صبي حالم ولا مراهق طائش لتدرك كما أدركت أن الكمال محال.. وأن العقل والحكمة والرأي السديد لا تُعطى للمرء لكبر سنه ولا لكثرة تجاربه ولا حتى لكثرة قراءته وإنما ينالها من رزقه الله النور من عنده والهداية من فضله

وحين ذكر الأبشيهي في المستطرف قصة حكم سليمان عليه السلام مع صاحب الغنم والحرث وكيف أنه اهتدى للحكم السديد رغم صغر سنه آنداك، قال بعدها: فهذه المعرفة والدراية لم تحصل لسليمان بكثرة التجربة بل حصلت له بعناية ربانية وألطاف إلهية من رب العالمين.. وقد كان الراعي النميري ذا حكمة في قومه حتى كان رسولهم إلى عبد الملك بن مروان لحكمته وفصاحته، ولكنه هو بذاته من يورد قومه موارد الخزي والذل حين تعرض لجرير فأذلهم ببيته الشهير:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا

فعاش بقية حياته حتى مات على كمده من هذا البيت.. وهو الذي يُشار إليه بالحكمة في يوم ما! فنعوذ بالله من أن نركن إلى ضعفنا وجهلنا وأن يكلنا الله إلى أنفسنا وإلى أحد سواه وهو أرحم الراحمين بنا سبحانه