غادرت كوكب الأرض في ليلة مقمرة ، في مهمة بحث عن قرين لي تعثر مروره عبر أسلاك الفضاء الشائكة ، وبينما أنا أنقل الخطا ، وأتمعن الوجوه من كوكب لآخر انزلقت قدمي لأخرج عن نطاق الجاذبية ، وأدخل في سباق مع الضوء امتد لملايين السنين .
وعند مروري بمنعطف ( اللاوعي ) لفت نظري سفح مدرج سندسي الحلل ، لا زوردي الحلي ، رقراق النبع ، ترى من خلاله ماوراءه من عجائب الخلق وبدائع الصنع ، فلقيتني أهفو إليه .
وألتمس مقعداً على ناصيته ، مستمتعاً بجماله ، ومتغنياً بخلاله ، وطفقت أمسح بسوق أشجاره ، وأستنشق ناعم أزهاره ، وأعب من رحيقه الفواح حد السكر المباح ، وشيئاً فشيئاً ارتسم أمامي شعاعان منكسران لهما يدان كأيدينا ، ولكنهما يتحركان كالسحاب الثقال ، وسمعتهما يقهقهان ويوشوشان لبعضهما .
فأطرقت لحديثهما المموسق لدرجة الطرب ، فإذا بأحدهما يقول : من أين جئت أيها الغريب الحبيب ؟ فكدت أنطق لتوهمي توجيه السؤال إليّ ، لكني تهت في نسيم رقيق سرى بروحي فأفقدني الكلام .
ودفعني للصمت ، لأسمع الآخر : كنت في رحلة إلى البلد الحرام في كوكب الأرض ، فقاطعه الأول والدمع ينهمر من عينيه : وكيف لقيت الحرم وزمزم والمقام وتلك الرحاب المترعة بالقدسية والرحمات ؟ فقال : لقيتها في نهار دائم لا ليل يعتريه ، ولا ظلام يواريه .
فسأله صاحبه : وهل تغيرت سنة الله في الكون ؟ فرأيت بسمة تفتق صم الصخر من صاحبي الذي أحببت كلامه ثم رد : لا ، فسنة الله لا تحويل لها ولكن .. فعاجله الأول : ولكن ماذا ؟ وشعرت بخوف يعتريني ماذا حدث لبلدي … لولدي … لكل أهلي وعشيرتي المنتمين لذلك البلد الطاهر ، وقطع خوفي جواب المسؤول : إنه شيء يفوق خيال الواصفين ، ويعجز العالمين ، إنه عمل منجز معجز قام به أحد الملوك في سبع سنين ، أحال الصحراء واحة ، والجبال راحة ، والبحر سياحة ، والسماء باقة ورد فواحة .
فقال له محدثه : أهو من نسل ذلك الملك العظيم الذي زرناه سويةَ وهو يوحد تلك الديار ؟ فرد عليه : نعم .. نعم .. أنعم بالأصل والفرع ، وهنا عادت لي روحي وتحركت لا إرادياً وصحت : فداك روحي ياخادم الحرمين ، لقد أصبحت حديث الأرض والسماء ، فإذا بالشعاعين ينكفئان عليّ ويسألان : أأنت من تلك الديار ؟ فقلت ورأسي تعلوهما : أجل وذلك الملك هو الحبيب الأريب العريب الذي جاء من سبع سنوات لنعلو به سبع سماوات حباً وتواضعاً ورحمة ، فردا بصوت واحد : عد من حيث أتيت ، وقبل يدي ذلك الملك المهاب الذي هزم إبليس وذيوله من ملال وأشكال ، وقل له : لقد حكمت بشرع الله ، وسعيت بما يرضي الله ، فطب نفساً واهدأ بالاً ، وادع له ولولي عهده صاحب الرؤية التي ستعبر بالعالم أجمع نحو أفق خال من الشوائب، وقل لهما:
طاب عهدهما ومن أخلص لله ثم لهما، لن يضرهما حاسد ولا حاقد مادام القرآن والسنة دستورهما، واعلم أن المقام بربى الحرمين أطيب مافي الوجود في ظل شرع الله ثم حكم آل سعود ، قلت لهما : وكيف أعود ؟ فنفثا فيّ أنفاس عطر ساحرة لم أصح منها إلا وأنا جالس أضحك على فراشي عجباً من حديث الأرض والسماء في ذكرى البيعة المشهودة.
التعليقات
اترك تعليقاً