ليلة حالكة قضيتها على فراشي ملتحفة الحيرة بكثير من الخوف ، على وسادة القلق من المجهول القادم والغربة التي تجتاح روحي ، الساعة الخامسة فجراً ، يجب أن أتهيأ لخوض هذة التجربة المفاجئة لي ، ويجب أن يتهيأ بداخلي كل شيء ، يجب أن أبتعد عن المقارنات بالسابق في مرحلتي القادمة ، لا مجال لذلك ؛ ويجب ويجب ويجب ، كأنني أقنع نفسي بكلمة -يجب-.

وقعتُ فيما كنتُ أخشاه ، طيلة الثمانية والعشرين عاماً السابقة من مرحلة عملي كمعلمة للمرحلة الثانوية قبل البدء في هذا العام الدراسي ١٤٤٤هـ ، قررت أن تكون رحلتي التعليمية الأخيرة فيه ، الاكتفاء من العمل وتقديم طلب التقاعد المُبكر ؛ كي أفرغ رأسي من المسؤولية وأرح بالي من ضغط العمل و أتفرغ لبقية مشاريعي في الحياة.

في حين استعدادي لاكمال متعتي بالتدريس في عامي الأخير ، وقعتُ في مطب (الندب) لمدرسة أخرى ، وهذا شيء وارد وطبيعي في حياة كل مُمتهن بالتدريس ، ولكن الكارثة أن تنزلق بالطريق المنحدرة من المرحلة الثانوية لمرحلة الطفولة المبكرة وخصوصاً صفها الأول ؛ وإذ فجأةً أنا أمام فصلين من الأطفال ، (ثمانون) طفلاً مجمل عددهم ، فهذه هي الكارثة بعينها.

(رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ )سورة الأنبياء ، الآية: 89.

تذكرت هذه الآية الكريمة حين وضعتها في خانة حالة تطبيق الواتس آب الخاصة بي ، منذُ أكثر من عشرين سنةً ، وتردادي لها كثيراً في الآونة الأخيرة ، لم أكن أعلم وقتها كيف ستكون سر الإجابة ..؟! فعطايا الله كبيرة وعوضه أكبر.

تأبط أدواتي المدرسية واتجهت للمدرسة ، الشارع ضيق بحكم أن المدرسة داخل حي من أحياء المدينة بشارع فرعي وليست على شارع رئيسي ، لففتُ مرتين حول المكان كي أجد لسيارتي الصغيرة موقف ، وجدتهُ في ساحة أرضٍ فارغة غير ممهدة بجوار المدرسة ، أوقفتها ونزلتُ متجهة للبوابة ، كان عليها حارس أمنٍ متجهّم الوجه يصرخ على السيارات المتوقفة أمام المدرسة ، قلتُ في نفسي: ” اللهم صباح خيرٍ” .

دخلتُ المبنى كانت الاصوات عالية جداً مابين فوضى وصراخ ، وبكاء بعض الأطفال حديثي عهد بالدوام المدرسي ، يلفهم الهلع كما لفني الآن ، استجمعتُ قواي واتجهتُ نحو إدارة المدرسة ، أسأل عن وكيلة المدرسة ، فهي الوحيدة التي بإمكانها تهدئتي ، فهي زميلة دراسة وصديقة قديمة ، عندما رأيتها كأن شيئاً زاح عن قلبي ، حيّتني بحرارة ، ودار بيننا حوار خفيف لطيف.

الوكيلة: لم أكن أتوقع انتدابك للصفوف المبكرة..؟!

أنا: إنه مطب كبير ، ارتطمت به ، ولا يوجد حيلة كي أتخلص منه ، ولكن سأحاول أن أجد لي مخرج سريع.

الوكيلة: وحتى وجود هذا المخرج ، عليك تنفيذ الأمر فالطلبة متأخرين بالمنهج شهراً كاملاً.

أنا : سأحاول بإذن الله

الوكيلة: ولا تتناسي بأنك الأساس بالنسبة لهم والتأسيس ، فأنتِ معلمة اللغة العربية ، وتدريس لغتي يحتاج لجهد كبير بالصف الأول الابتدائي.

أنا: أعلم ومدركة حجم المسؤولية الملقاة على عاتقي .

الوكيلة: إذاً هيّا بنا ، لإلقاء نظرة على أطفالك الجُدد.

أنا: هيا بنا..

إلى خُطى الوجل مشيتُ على طريق الرهبة رُميتُ وصلنا إلى باب الفصل الأول وأصوات الأطفال متعالية تخترق الباب ، وما أن فُتح الباب كان الفصل في حالة من الفوضى ، هناك أمٌ في داخل الفصل تتحايل على طفلها الباكي وآخر على طاولته يتناول فطوره وقد عبث بذلك الفطور واتسخ كل ماحوله ، بينما الآخر مشغولاً بحقيبته وأدواته المدرسية ، ثلاثة من الأطفال آخر الفصل يلعبون بصوت عالي ، على الجانب الآخر طفلين في حالة عراك على المكان ، كلٌ يقول للآخر هذا مكاني ، ذاك العابث على جدار الفصل بألوانهِ ، وغيرهُ منطوي على نفسه تحت الطاولة يحاول أن يُخفي نفسه ، والنائم في وداعة وسكينة رغم الفوضى ، بخلاف ذلك الطالب الهلِع مما يحدث حولهُ ، وهناك طفلٌ يقف على الطاولة يصرخ بأعلى صوته مهدداً زملائه أنا الوحش .

سلسلة من اللقطات أخذتها بلمحة واحدة وأنا في كامل ذهولي ، توقف ذهولي فجأة بطرق إحدى إداريات المدرسة على سبورة الفصل بمسطرة خشبية ؛ محاولة منها تهدئة الوضع الكارثي الذي أمامي ، ألقيت التحيّة على من بالفصل ، وقامت وكيلة المدرسة بتعريفي على الطلبة قائلة لهم: هذه معلمتكم الجديدة في مادة لغتي ، تحمس بعض الأطفال وسأل عن اسمي ، والبقية لم ينتبهوا لوجودنا حتى.

خرجتُ من الفصل وأغلقتُ الباب قائلة للوكيلة بنبرة منخفضة :
هل هذا حُلمٌ ، ما أنا فيه ..؟!

ردت ضاحكةً: بل كابوس حقيقي ستعيشين معه ، حتى ينتهي.