رمضان هو الشهر التاسع من أشهر السنة الهجرية وقد اشْتُقَّ اسْمُهُ من الرَّمَضُ وهو شدَّة الحَرّ، وقد مَيَّزُه الله عز وجل عن باقي الشهور بأنه شهر الصيام والقرآن والبر والغفران والعتق من النيران وتُفتَّح فيه أبواب الجنان وتُصفَّد فيه الشياطين وهو الشهر الذي أُنْزِل فيه القرآن وشهر صلاة القيام (التروايح) وهي من شعائر رمضان العظيمة وفيه أيضا ليلة عظيمة خيرٌ من ألف شهر هي ليلة القدر في العشر الأواخر منه مع صلاة التَهجُّد، لذا فهو شهر مُقدَّس تكثر فيه الطاعات وتتنزل فيه الرحمة ويتقرب فيه المسلمون من ربهم، ويُعتبر صومه ركناً من أركان الإسلام الخمسة.

كان رمضان في كل البلدان الإسلامية ومازال من أفضل وأجمل وأبرك الشهور عند المسلمين وسوف نخصص هذا المقال عن شهر رمضان في الحارة في تلك الأيام التي عاشها من هم تجاوزوا الخمسين عاماً أو ما يقارب هذا العمر وكانت الأسر المقتدرة تبدأ الاستعدادات المادية لاحتياجات (أرزاق) رمضان في منتصف شهر شعبان وحتى نهايته.

وكان لِعُمْدَة الحارة وكبار رجالها دور إنساني نبيل في حصر الأُسَرْ المتعففة والتأكد من وصول الأرزاق واحتياجات رمضان لهم قبل دُخول الشهر الكريم لإعانتهم على الصيام والقيام وهو ما يسمى الآن بـ”صندوق رمضان” وبمجرد إعلان دخول هذ الشهر المبارك في ليلة رمضان بإطلاق مدافع رمضان في مدينة جدة يبدأ الاستعداد الروحاني بعقد النية لصوم الشهر الكريم ثم يتوَجُّه أهل الحارة من الرجال والشباب لصلاة العشاء وأول صلاة للقيام في ليلة رمضان الأولى والتي يجتمع فيها الجيران والأقرباء وأبناء الحارة في المسجد يباركون ويهنون بعضهم البعض بدخول شهر الخير والبركة وذلك بعد صلاة القيام حيث تختلف فيه طريقة تناول الوجبات وأوقاتها.

أما النساء فيبدأن بالاستعداد للشهر الكريم بتزيين المنازل وتنظيفها وتنظيمها وتخزين المواد الغذائية (الأرزاق) وتجهيز البهارات الخاصة برمضان والإعداد لهذا الشهر بما يناسبه من مأكولات واحتياجات بخطة شهرية محكمة، وبعكس الآباء اللذين يقضون معظم هذه الليلة خارج المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل لتغيير طريقة العمل والعودة للمنزل وتوفير ما تبقى من احتياجاته الرمضانية.

أما الأبناء فقد كانت أيام وليالي رمضان بالنسبة لهم أجمل وأمتع الأيام والليالي لكونها كانت تأتي غالبا في الإجازة الصيفية والتي كانت تُجَمُّلها ليالي رمضان بالنشاطات الشبابية في الحارة وذلك بعد صلاة القيام مثل دوري كرة القدم وكرة الطائرة وتنس الطاولة أو بسطات (أكشاك) الوجبات الخفيفة كالبليلة والكبدة والبطاطس والحلويات وغيرها من المأكولات السريعة، وألعاب الفرفيرة الشهيرة (صندوق لاعبي كرة القدم اليدوي) أو مجموعات الطيرة (سباق السُرعة بين الشباب) أو الألعاب النارية البسيطة، أو جلسة المركاز وتبادل الذكريات الجميلة فيه.

وتستمر هذه النشاطات إلى ما قبل موعد السحور وهو ما يعادل الساعة الثالثة فجراً يتم بعدها العودة إلى المنازل التي تكون الأمهات والأخوات فيها قد استمتعن بمشاهدة المسلسلات الرمضانية والبرامج الإذاعية الترفيهية بعد صلاة القيام مع تناول الوجبات الخفيفة مثل الحلويات الحجازية والمقليات واللقيمات مع الشاي أو القهوة ثم تبدأ رحلة إعداد طعام السَحُور حوالي الساعة الواحدة فجراً وهي الوجبة الرئيسية في رمضان والتي تساعد أهل المنزل على الصيام طوال النهار مثل الصيادية أو السليق أو الكبسة أو المطبَّق أو المعصوب أو العيش باللحم أو الكباب الميرو أو الزربيان أو الرز بالحمص أو السَّقَطْ وغيرها من المأكولات الحجازية المميزة.

وبعد تناول الأسرة لوجبة السحور تبدأ مرحلة انتظار أذان الفجر والإمساك ثم أداء الصلاة والخلود للنوم استعداداً لصحوة الآباء في مواعيد عملهم كُلٌ حسب دوامه والذي غالبا ما كان يبدأ في العاشرة صباحا أو بعد أداء صلاة الظهر لمن هُمْ يعملون في التجارة والأسواق.

وأما الأبناء فغالبا ما كانت تبدأ مواعيد صحوتهم في الساعة الثانية عشرة ظهراً لصلاة الظهر وتبدأ معها رحلة ختم القرآن الكريم في مسجد الحارة بقراءة جزء أو أكثر من كل يوم من أيام الشهر وبعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر يتم شراء وتأمين الاحتياجات اليومية للمنزل.

أما الأمهات والفتيات فيبدأن يومهن بالصلاة وقراءة القرآن ثم الاستعداد لرحلة المرَكَّبْ (اسم المطبخ سابقا) الطويلة من إعداد مائدة الإفطار للصائمين والتي تبدأ بعجين السمبوسة المُضفرة أو استخدام الرُقاق واللحمة المفرومة والوجبات الرئيسية المصاحبة لها في الإفطار مثل شوربة الحب والفول المُبَخَّر بالبصل والطحينة والسمن البلدي والمعجنات الحجازية والعيش باللحم وغيرها من الأكلات الرمضانية.

أما الحلويات التي كانت في تلك الفترة مثل السقدانة والتطلي واللقيمات والماسية وقمر الدين والكنافة بالسمن وغيرها كان دورها في التجهيز يكون غالباً بعد صلاة العصر، وتأتي المشروبات الرمضانية والتي كان سَيَّدُها بلا منازع هو مشروب السوبيا بلونية الأبيض والأحمر وشراب التوت (التونو-الفيمتو) و قمر الدين والعرقسوس والتمر الهندي وعصير الخروب وغيرها من المشروبات الرمضانية، وقبيل صلاة المغرب تتم عملية تبخير  مغاريف التوتوا بالمستكة وكاسات الزجاج وفناجين القهوة والترامس التي توضع فيها قوالب الثلج ودَوْرَقْ الزمزم (وهي جَرَّة فخارية لحفظ ماء زمزم) لإعطائها نكهة مميزة عند الشرب في رمضان.

وقبل المغرب بلحظات يأتي دور الأبناء في توزيع بعض صحون الأكلات الرمضانية للجيران والأحباب في المنازل المجاورة ولا يعود أيٌ منهم ويداه فارغتان بل يَطْلُبُ منه الجيران الانتظار لرد الصحن بآخر من نفس المنزل وهي عادة حجازية أصيلة كانت من صفات أهل الحارة القديمة في ذلك الزمن الجميل تَنُمْ عن أواصر الكرم والمحبة والتواصل والتقدير، حيث لا تجد مائدة في كل منزل لا تحتوي على تشكيلات من أطباق الجيران ووجباتهم المميزة.

أما تجمع العائلة بأكملها على مائدة الإفطار فقد كان يزينها برنامج الشيخ على الطنطاوي رحمه الله الذي يحمل نفس الاسم “على مائدة الإفطار” بخواطر يومية ومعلومات دينية عن شهر رمضان بأسلوبه السَلِسْ وشخصيته المحبوبة، ومتعة تناول تمرات الإفطار مع دعاء الصائمين ثم أداء صلاة المغرب والذي تنطلق بعدها عملية الإفطار وجَمْعَة العائلة على المائدة وكان لكلٍ من الفتيات دور على المائدة فتجد منهم من تقوم بغَرْف الطعام لأفراد الأسرة ومن تقوم بتوزيع فناجين القهوة ومن تَسْكُبْ الشوربة ومن تُوَزِّع المشروبات حسب طلب الأفراد وهو نوع من أنواع توزيع المهام على أعضاء فتيات الأسرة بكل حب وتنافس وتعاون، ثم تأتي بعدها مرحلة متابعة فوازير رمضان والبرامج الرمضانية.

أما محبي المذياع (الراديو) فقد كانوا يتابعون برنامج “يوميات أم حديجان” الذي كان يقدمه الفنان الموهوب عبدالعزيز الهزاع في تقليد الأصوات والشخصيات بقصص ومواقف أسرية وطريقة علاجها داخل الأسرة الواحدة، كُلُّ ذلك كان بشغف ومَرَحْ إلى الساعة الثامنة والنصف حيث يبدأ بعدها الآباء والأبناء الاستعداد للذهاب لمسجد الحارة وتكملة الورد القرآني اليومي قبل صلاة العشاء والقيام.

وبعد الصلاة يعود برنامج الليالي الرمضانية للآباء في التوجه للعمل والنشاطات الجماعية للأبناء في الحارة كما هو معتاد في الليالي العشرين الأولى، أما في العشر الأواخر من رمضان فقد كانت تُضاف إلى البرنامج عملية التفرغ لصلاة التهجد من الساعة الثانية عشرة والنصف فتتوقف أغلب النشاطات في هذا التوقيت ويبدأ الجميع في التَوجُّه للمسجد والتقرُّب لله طلباً في إدراك ليلة القدر العظيمة.

وكانت الأمهات والفتيات في آخر أيام رمضان يَقُمْنَ بعملية التنظيف والاستعداد لعيد الأضحى المبارك لكافة أرجاء المنزل وأهمها المطبخ والمجلس ومسح الجدران والشبابيك والرواشين وغسل المفارش أو تنظيفها من الغبار في أسطح المنازل وتنظيف الباطرمة والستائر والأرضيات.

وتجهيز حلويات العيد مثل الدبيازة والحلويات الحجازية كالمعمول والغِرَيَّبَة والهريسة والحلاوة اللبنية واللدُّو وطبطاب الجنة والحلقوم واللوزية وبيض الكوكو وغيرها من الحلويات، والأجمل من ذلك أن تجد شباب العائلة في ذلك الزمان يساعدون أمهاتهم وأخواتهم في التنظيف والترتيب واستعدادات العيد من واقع التكاتف والتلاحم الأسري.

أما الأيام الأخيرة فتكون غالبا مهمة أفراد الأسرة في التَردُّدْ على الأسواق لشراء ملابس العيد ومستلزماته والاستعداد لهذه المناسبة السعيدة بفرحة قدوم عيد الفطر السعيد وختام الشهر المبارك وإتمام الصيام والقيام فيه، وهي ذكريات جميلة أبحرنا فيها بكل تفاصيلها واستمتعنا بأمواجها وصفائها وهديرها الذي لا يفارق العقول عن زمن جميل وجيل الطيبين كما يسميه البعض (وجميع الأجيال طيبة بإذن الله) عشنا معها أجمل اللحظات ببساطة العيش وصفاء القلوب وطيبتها ونقائها وحب الأهل والجيران والتواصل المستمر معهم والانتماء للحارة، وهي ذكريات نستمد منها حلاوة الماضي وقوة الحاضر وآمال المستقبل فتفرح بها قلوبنا وتُواصِلُ مسيرة الحب والحياة بكل سعادة وفرح وسرور.

يقول الشاعر بكر موسى هارون في أجمل ما قيل عن الذكريات:

أَرْجِعْ زَمَانَ الأمْسِ مِنْ صَفَحَاتِي  …   مَا أجْمَلَ الأيَّام بَعْدَ فَوَاتِ

ذِكْرَي يَعُودُ إلَى الفُؤَادِ حَنِينُهَا     …   دَوْماً إِذَا ذَاقَ الفُؤَادِ أَسَاتِي