للحياة دروس وللناس بصمة ، وتظل بصمة الأطفال النقيّة ذات طابع مختلف ، كُلما هممتُ للدخول على الفصل كي أُلقي درساً في اللغة العربية ، أجدني مع طالبات المرحلة الثانوية مُثقلّة بالمعلومات وصنوف الثقافات وأحاول جاهدة توصيلها بشتى الطرق ، فأمامي طالبة مابين السادسة عشر للثامنة عشر عمراً ، قد تشكّلت شخصيتها و تلونت وارتسمت من الأسرة والمجتمع ومجتمع المدرسة ومواقع التواصل الاجتماعي الذي لا يمكن أن نغفلهُ ، فتأثيره في هذا الزمن أكبر وأشمل من البقيّة ، فلا أثر لي كمعلمة عليهن إلا القليل والنادر أحياناً ، في الجانب الآخر لا يُمكنني أخذ أي شيء منهن..

بينما دخولي على أبنائي طلبة الصف الأول الابتدائي مغاير تماماً ، فأنا لا أحمل سوى حرفٍ واحد بصوته الطويل والقصير ، ولكن بالمقابل أحمل معي المبادئ القيم الأخلاق والقليل من المعلومات التي تُناسب عقليتهم ، فطفل السادسة صفحة بيضاء يتم تلوينها ورسمها وتشكيلها بشكل سريع وبدون تعقيد ، مازالت الشهيّة مفتوحة على مُقتبل الحياة..

بالمقابل أخذتُ الكثير والكثير منهم مع احتكاكِ بهم والتعامل معهم ، والذي لم أحصل عليه طيلة حياتي..
الصبر ، ضبط النفس ، طول البال ، الهدوء ، فن الحوار و التفاوض والاقناع ، فن الترويض ، فن تهذيب النفس ، فن تبسيط المعقد ، وفن تذليل الصعب ، تحويل الدمعة لبسمة والبكاء لضحك والسخريّة لجِد والجِد لسخريّة ..
ما تعلمته من الأطفال ، فاق ما وصلني من الكِبار..

هذا هو طفل هذا العصر ، مغاير له تماماً طفل العصور السابقة ، يقول العالم العباسي الواعظ الزاهد ابن الجوزي عن نفسه في كتابه (الأذكياء):” وأنا في السادسة من العمر ، لي همّة عالية وأنا قرين الصبيان ، ثم رُزقت عقلاً في الصّغر يزيد عن الأشياخ ، فما أذكر إني لعبت في طريق مع صبي ولا ضحكتُ ضحكاً خارجاً ، في السابعة من عمري أحضر رحبة المسجد وأطلب المحدّث فيتحدث بالسمر الطويل ، فأحفظ وأرجع للبيت فأكتبهُ ، وأحببت السّهر ، ولم أقنع بفن واحد من العلم ، بل كنتُ أسمع الفقة والوعظ والحديث وأتّبع الزُهّاد وأقرأ اللغة العربية وأتتبع علمائها وأتخيّر الفضائل”..

عجيب همّة ورغبّة الأطفال في العصور السابقة رُغم صعوبة الحصول على العلم وندرة العلماء والكتب.. لكل زمان أذانهُ ، كما يقول المثل..

نعود لصغارنا حين جاء يوم إعلان وتسليم نتائج الفصل ، لم يكون بالنسبة لي يوماً عادياً ، كان فرحاً وبهجةً ، كان أُنساً وطرباً ، معلمات الصفوف المُبكرة يعتبرون هذا اليوم هو يوم نجاحهم وليس نجاح الطلبة..

ملأنا طاولة كبيرة في بهو المدرسة بجميع أنواع الكعك والحلويات والمياة والعصائر والقهوة والهدايا والورد ، مع إشعارات وتقارير الدرجات وضعنا شهادات الشكر والتقدير ، أرضيّة البهو تشكلت بصنوف البالونات الملونة ، في زاوية البهو وقريب من مسرح المدرسة وضعنا مُكبرات الصوت التي تصدح بأغاني النجاح وإيقاعات الفرح..

الطفل الذي يصل يُؤخذ بالأحضان والقبلات ويصعد المسرح ويُنادى عبر مُكبر الصوت باسمه الكامل ويتسلم شهادته وهديته وقطعة من الكعك..

في تلك اللحظات أمتزج في داخلي الفرح والحزن معاً ، الفرح بنجاحي معهم خلال فصل دراسي كان الأثقل خلال مسيرتي المهنيّة ، والحُزن لأن هذه الفرصة والتجربة من حياتي والتي أعطتني الكثير ، جاءت متأخرة جداً خلال مسيرتي في مجال التعليم فأنا على وشك التقاعد ..!

مُكافأة نهاية الخدمة ليتها كانت أبدر ، ليتها كانت في بداية حياتي ..!