من طبيعة حياتي كثير الأسفار، أحياناً بمفردي، وأحياناً برفقة اخوة من الأقارب، أو الجيران، أو زملاء العمل، بين مدن وطننا الغالي المترامية الأطراف، وذات الطقوس المتنوعة ما بين الحار والبارد والمعتدل، وتضاريس مختلفة بعضها جبلية وعرة، وأخرى سهول ممتدة تخللها أودية مختلفة الأحجام والأطوال، غالباً رفاقي في السفر إخوة كرام، متفاوتون في الثقافة، وفي المرونة، وفي مدى تغلّبهم وتعاملهم مع طبيعة الحياة يسرها وعسرها، أحياناً تحيلنا الظروف للتناحر إلا أن العقلاء من الإخوة الأكارم يزيلون فتيل الاشتعال، ويسعون بحنكتهم لرأب الصدع، وتخفيف حدة الخلاف أو القضاء عليه إن استطاعوا.
من طرائف الحالات النادرة أن شخصاً ما حينما يشتد الخلاف، ويحتدم النقاش، وتزداد وتيرة التلاسن، يفقد السيطرة على انفعاله، ويحوس بعض أغراضهم ببعضها، ويمطرهم بوابل من الشتائم دون شعور لشدة غضبه، وينصرف عنهم قاصداً سيارته، ويذهب بعيداً عنهم، ويقضي وقتاً بمفرده حسب درجة الغضب، أحياناً تطول المدة، وأحياناً تكون قصيرة بسبب تدخل المصلحين، ويعتمد هذا على سرعة استجابته وتقبله لما يريده المصلحون.
عندما تضيق النفوس من تعب السفر ونحوه تحدث خلافات وتتأزم، وتكون على أبسط الأشياء، أحياناً (نتهاوش) على مكان أو وقت المبيت أو بهما معاً، أو على مكونات الطبخ: فيه مَن لا يحب الثوم، أو البندورة، أو البهارات وفيه مَن لا يحب القرنفل أو الهيل مع القهوة، لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، هذه أمور طبيعية فينا كبشر.
عند وصول نقطة المبيت يتوزعون ما بين ترتيب السيارات حسب اتجاه الرياح وتجهيز القهوة والشاهي، واختيار المكان المناسب للجلوس والاسترخاء بعد سفر يوم طويل مجهد، أحياناً يتأخرون باختيار مكان(الجلسة) فريق يرى أنها تكون عند مقدمة السيارة للقرب من الإنارة التي تعمل على بطارية السيارة، والفريق الآخر يرى أنها تكون عند العجلات الخلفية للسيارة للاحتماء من الرياح، فيحتار الذين مهمتهم ترتيب الجلسة ويتوقفون بالمنتصف وهم في حيرة يبحثون عن أمل يرضي الطرفين المتضادين، فيتوجهون بسؤالهم اليتيم للفريقين ” أين نضع(فُرُش جلوسنا)؟! يضطر احد الفريقين للتنازل عن رأيه وينتهي الخلاف.
تضرم النار للتدفئة في الليالي الباردة، أكبر المجموعة سناً يكتفي بالإشراف على زملائه وتوجيههم إن أمكن، يقتربون من شعلة النار، و(يفحجون) بأرجلهم حول النار، ويمررونها سريعاً فوق الشعلة بحثاً عن الدفء مع (وحوحة) متقطعة، تدفئة الجسم مقدمة على ضرر الرئتين، فينادي اكبرهم سناً بأعلى صوته يا النشاما (زيدوا حطب)، بعد الترتيب يتحلّقون حول النار ويحتسون القهوة بشراهة حتى يزول التعب وإجهاد السفر، ويتجاذبون أطراف الأحاديث الودية للترويح عن أجسامهم المتعبة.
يتكئ أصحاب الأوزان الزائدة على(المراكي)، بعد أن يلتحف كل منهم (فروته)، تأخذهم غفوة فيتسرب الشخير من أكمام فرائهم، ويهيمن الضجيج على المكان، ويكتفي البقية بتوزيع النظرات والابتسامة ونظرة تأمل لا تخلو من التعليقات الفكاهية على زملائهم المنهكين من التعب، يستيقظون من غفوتهم فجأة ويتلفّتون يميناً ويساراً، ويسألون من حولهم كم استغرقت غفوتنا، أنتم (تعشيتم)، يخشون أن تفوتهم الوجبة الشتوية الدسمة رغم أنه من المستحيل أن يتناول بقية الزملاء العَشَاء دون بقية رفاقهم، وهم – أي الغافون – يعلمون ذلك جيداً ولكنه خوفهم الذي لا مبرر له جعلهم يسألون هذا السؤال الغير منطقي.
أحياناً عندما تكشّر الظروف عن أنيابها وربما في حالات شبه نادرة تنتقل حدة الخلاف للعقلاء فيتدخل العوام فيزيدونها اشتعالاً، وكل منهم يدلي بدلوه ويظن أن فكرته هي الوسيلة الوحيدة الأنجح لتقريب وجهات النظر المختلفة، فتتسع دائرة الخلاف فيضطر العقلاء للتصالح الغير مشروط من أجل تهدئة العوام، ونزع فتيل الأزمة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة ويحدث ما لم تحمد عقباه.
” إن لم تكن معي فلا يعني أنك ضدي ” هذا منطق العقلاء المتحكمين بعواطفهم ومشاعرهم اتجاه الآخرين، أما ” إن لم تكن معي فأنت ضدي” فهذه أخلاقيات لا تتناسب مع قيمنا ومبادئنا (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).. نختلف هذا أمر طبيعي ولكن بشرط أن لا يؤدي هذا الاختلاف إلى الخلاف، والخلاف بدوره يؤدي للكراهية، والكراهية بدورها تنفّر الجميع، وترسّخ الحواجز بينهم، وتسبّب شرخاً عميقاً في العلاقات.
ظروف الحياة تجبرنا أن نتعامل مع شخصيات مختلفة في المفاهيم والعقول، فالاختلاف سنّة كونية اقتضتها حكمة الله عزّ شأنه، وهذا التعامل لا يعني أننا دائماً في اتفاق معهم في كل شيء، ربما نتفق تارةً ونختلف تارةً، فليس من الأدب أن يفرض شخص ما رأيه على من حوله دائماً، تعلّم ثقافة الاختلاف لا الخلاف مطلب حضاري، به تتقارب النفوس، وحفظاً واستقراراً لعلاقات المجتمع ابتداءً من الأسرة الواحدة إلى جميع فئات المجتمع، من الدروس المستفادة من الأسفار أنها قد تغيّر من سلوك البشر، وتكشف عن معادنهم إلا أنها لا تستطيع تغيير تلك المعادن.
رحم الله الإمام الشافعي عندما قال: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب. الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه رحب بعرض وجهات النظر وحث عليها بقوله: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.
التعدد في وجهات النظر تساهم في تصحيح بعض الآراء الخاطئة، إذا لم تخالطها مكابرة وغرور، وبحث عن الصدارة، قدوتنا نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام كان يشاور أصحابه وزوجاته رضوان الله عليهم وعليهنّ، ويستمع ويأخذ برأيهم ورأيهنّ.
همسة محب: ليس من الضرورة أن توافقني أو أوافقك في الرأي، ولكن من الضرورة أن احترمك وتحترمني، وليس بالضرورة أن كل ما يعجبني يعجبك، أو العكس.
التعليقات
اترك تعليقاً