كان لي عظيم الشرف أن أعمل في المرحلة الثانوية بعد أن قضيت سنوات طويلة في العمل بالمرحلة الابتدائية. سعادتي بالغة وسروري بهيج لأنني أعمل الآن في مكان محبب لقلبي و مع قائدة مبهره ازداد تعلما على يديها، هي قامة من أروع من عرفتهن بحياتي، حتى لو كانت المدة بسيطة فيكفيني شرفا أن أعمل تحت إدارة مستنيرة كإدارتها.

كانت بداية يومي جميلة في صباح من صباحات العمل المشرقة المفعمة بالآمال والطموحات والانطلاق، رأيت ذلك أيضا في أعين طالبات هن كبراعم الأزهار الندية، أحببت منظر تلك الثلة من الطالبات في ذلك الصباح وهن يركضن بحماس في باحات مدرستهن وصوت ضحكاتهن ومزاحهن يتعالى ويملأ الأرجاء.

تبين لي حينها مدى الشغف والحماس والجنون المرتبط بهذا السن؛ انظر إلى

لمعة أعينهم وحركاتهم المندفعة دائما، ودنياهم الضيقة الشيقة والتي تشعرهم أنها واسعة جدا وأنهم هم محورها وهم لا زالوا لم يروا منها شيئا بعد.

أراهم وأتأمل وجوههم البريئة وكأنهم يملكون الدنيا بأسرها. في لحظة شعرت وأنا أسير بينهن بنسمات حرية باردة تخفف من وطأة سخونة وحرارة المسؤوليات والصدمات وهموم الكبار، عندها ابتسمت لا إراديا، فوجئت حينها بذكريات قديمة حاضرة أمامي، ذكريات كالأمواج تتلاطم في عقلي، تذكرت اليوم الأول من دراستي في تلك المرحلة بتفاصيله، تذكرت مشاعري التي لم أستطيع تحديد هويتها بالضبط مزيج من التوتر والخوف من حلم مجهول لا أعلم مداه، تذكرت مرور الأيام والأشهر والسنوات، كانت الأيام تمضي وأنا لا زلت على ذات الكرسي والطاولة ممسكة بالقلم وأخط في دفاتري، تذكرت كم من أيام أسندت رأسي فيها على طاولتي التي طمست معالمها من كثر ما كتبت عليها من شخابيط لا معنى لها، تذكرت كم من احتفال ومناسبة دراسية تخلفت عنها لأنزوي هناك في زاويتي البعيدة عن الطالبات ومعي كتبي وأقلامي فقط.

كانت مرحلة الثانوية أجمل المراحل وأسعدها، وهي كذلك أقوى مرحلة تغيير في حياتي من جميع النواحي في تلك المرحلة و في أول شهر أحسست بأن دراستي ستكون بطريقة مختلفة. شعرت بأني يجب أن أبذل مجهودا في تغيير تفكيري وطريقة دراستي. كدت أفشل في التأقلم لكن توجيهات والدتي رحمها الله وكلماتها البسيطة في كل مرة تجعلني أتقدم، في كل مرة أفشل أنهض من جديد وأغير خططي وأصر على النجاح. حولتني من إنسانة خجولة مترددة إلى إنسانة أخرى صلبة لا تشكو ألما ولا قسوة ولاتخاذلا.

تواضعي تربيتي خصالي هي مكونات لشخصيتي التي طالما عملت والدتي على تكوينها وغرسها بدواخلي، وبوفاتها أعترف أنها كانت مرحلة من أصعب المراحل المؤلمة في حياتي. عندما تنهي الثانوية فإن أجمل أيام حياتك قد مرت، بالفعل، المرحلة الثانوية من أجمل مراحل العمر، عشت معها ذكريات منسية أنعشت وجداني.

في أي صرح لا بد للأيام أن تمضي وتنقضي بكل ما فيها من فرح وحزن، ولكن تبقى هناك ذكرى عطرة تذكرنا بكل ابتسامة لقاء وبكل فرحة نجاح وتخطي صعاب، تذكرنا بأوقات مرت سريعة كنا فيها نترقب أحداثا جميلة ونجاحات وشهادات توجت بعنا وشقا وتعب سنوات طويلة انتهت بكل جمالها ولحظاتها
ولكن لا زلنا نردد بيننا وبين أنفسنا ودارت عجلة الأيام.