النية في اللغة تعني القصد والإرادة لعمل ما، وللنية مكانة عظيمة في الإسلام حيث أنها تُحَدِّد الهدف من العمل هل هو لله وحده، أم لله وغيره، أم لغير الله، فالنية الصالحة والصادقة والخالصة لوجه لله تعالى والتي هدفها رضا الله تُبَلِّغُ صاحبها أفضل المنازل عند الله وتكون سبباً بإذن الله لنيل الأجر والثواب العظيم، وأما النية الفاسدة والخبيثة والعياذ بالله تكون على النقيض من ذلك تماماً.

وقد لفت نظري حديث عظيم للمصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام والذي قال فيه: “مَثلُ هَذِه الأُمُّة كَمَثلِ أربعةِ نَفَر، رَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً وعِلماً فَهو يَعمَلُ بِعِلمِه في مَاله يُنفقهُ في حَقِّهِ، ورَجُلٌ آتَاهُ الله عِلْمَاً ولَم يُؤته مَالاً فَهو يَقُول: لَو كَان لِي مِثل هَذا عملتُ فيه مثل الذي يعملُ، قَال رسُولُ الله صَلى اللُه عَليه وسَلم: فَهُمَا في الأجرِ سَواء، ورَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً ولَمْ يُؤتِه عِلْمَاً فَهو يُخبِطُ في مَالهُ يُنفِقه في غَيرِ حَقِّهِ، ورَجُلٌ لَمْ يُؤته الله عِلْماً ولا مَالاً فَهو يَقُولُ لَو كَان لِي مثل هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهُمَا فِي الوِزْرِ سَواءٌ” (رواه الألباني-صحيح ابن ماجه).

مَثَّلَ الرسُّول عليه أفضل الصلاة والسلام في هذا الحديث الأمة الإسلامية بأربعة أصناف من البشر وهي:-

الصنف الأول: رجل مسلم آتاه الله مالاً وعلماً:- فهو يتقي الله فيهما (أي يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية) وينفق المال فيما أمره به ويبتعد عَمَّا نَهَاهُ الله عنه ويصل فيه رحمه وأقاربه بالإحسان، ويعلم بأن لله حَقٌّ فيه كما قال تعالى “وفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَائِلِ والمَحْرُومِ” (الذاريات-19) وقيل المَال والعِلم أيضا، فهو يتصرف بهما على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، وهو بأفضل المنازل وينال بهما الدرجات العليا والثواب الجزيل.

الصنف الثاني: رجل مسلم آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً:- أي رزقه الله “العلم” والفقه في الدين ولم يرزقه “المال” وهو مخلص النية لله في أن لو لَدَيه المَال لَعِمَل بعمل فُلاناً عرفاناً بحقِّ الله في هذا المال وكيفية شكر هذه النعمة بما يرضي الله، فهو في الأجر سواء كالصنف الأول المذكور في الحديث.

الصنف الثالث: رجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً:- أي بسبب فقده للعلم فهو يَخبِطُ في ماله أي يستخدمه ويتصرف فيه بغير علم ونتيجة جهله لا يتقي الله فيه ولا يخافه في ماله ولا يصل بماله الذي أكرمه الله به رَحِمَه، ولا يعلم لله فيه حقاً ولا يؤدي شكر هذه النعمة لله، وهذا الصنف من البشر أعَدَّهُ الرسول عليه الصلاة والسلام في أخبث المنازل أي في أحقر مكانة عند الله لأنه آثِمٌ بإتلاف وضياع هذا المال بغير علم.

الصنف الرابع: رجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً:- أي لم يرزقه الله العلم والمال ولكنه نوى بأن الله لو أعطاه المال لعمل فيه بعمل فلان الذي أنفق ماله على الشَهوات والمَلذَّات فيعاقب بهذه النية السيئة ويكون وزره مساوٍ للصنف الثالث في الإثم والذنب والعياذ بالله.

وهنا وجب التنبيه على أمرٍ مهم، فقد قال ابن رجب رحمه الله في قول الرسول عليه الصلاة والسلام “فَهُمَا في الأجْرِ سَوَاء” أي استوائهما في أصلِ أجرِ العَمَل دون مُضاعفته، لأن المُضاعفة (الحسنة بعشرِ أمثالها) يختص بها من عَمِل العمل دون من نواه بلا عَمَلْ، فإنهما لو استويا من كلِّ وجه لَكُتِبَ لِمَنْ هَمَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ وهو خلاف النصوص كُلِّها، والدلالة على ذلك قول الله تعالى “لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا” (النساء-95).

وأختم بقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي الكبرى: أن من نوى الخير وعمل منه مقدوره وعجز عن إكماله، كان له أجر عامله، كما في حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لَقد تَركْتُمْ بالمَدينة أقْوَاماً مَا سِرتُمْ مَسِيراً ولا أنفَقتُم مِنْ نَفَقَة ولا قَطعْتُم مِنْ وادٍ إلا وَهُمْ مَعكُمْ، قَالوا: يا رسُول الله وَكيفَ يَكُونون مَعَنا وهُم بالمَدينة؟ قال: حَبَسَهُمُ المَرض” (أخرجه البخاري وأبو داود)، فما المانع أن ينوي المسلم نية خالصة لله في القيام بأعمال صالحة فيما إذا رزقه الله من نعيم الدنيا وخيراتها، فإذا حال بينه وبين هذا العمل موانع للقيام به يكون بإذن الله قد كسب الأجر على هذه النية الصالحة.