أمام كل سُفرة (شيف) مالك نَفَس الطبخ الشهي، ومالك حرفة فنون المذاق الساحر، ما إن يشرف على وجبة ستأكل منها رغم أنفك، وستتمرد على قوانين الصحة، وإن كنت تتبع برنامج حمية معيّنة ستضرب بها عرض الحائط، وستتبرأ منها حتى لا تعكر مزاجك الذي هو في حالة سكر مع عذوبة المذاق، لله درّه ودرّ حرفته!
عند تجهيز أيّة وجبة فاخرة ازعم أني قادر على كبح جماح عواطفي، وبثقة عمياء أن كل شيء تحت السيطرة، وما إن (أتربّع) حول المائدة إلا وتبدأ المعركة الطاحنة أطرافها: النفس والشيطان ضد المنطق الضعيف، وعند انطلاق الأيادي في الصحون تأتيا النفس والشيطان عند أذني فيهمسانِ بها مدغدغا عواطفي بكل ما أوتيا من أسلحة الإغراء.
أنت أمام نعمة شهية نادرة، وقد لا تكرر، فمصيرك يوماً ما إلى التراب، وجسمك الذي تحرمه من النعم مصيره طعام للدود، فَلِمَ هذه القسوة والتقشف المميت، زاحم الرجال وابنِ جسمك من خير الله وفضله طالما أنك على قيد الحياة، ولا يزالا يلقيا في أذُنُيّ كمّ من المواعظ والنصائح ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
حينها ليس أمامي سوى الاستسلام لهذه النصائح، فأطلقُ العنان ليدي وسلاحها الجارف أصابعي الخمس، فتبدأ المعركة بلا رحمة بالتقاط ما لذّ وطاب حتى تصيح المعدة وتولول أرجوك كُفّ يدك بدأت اختنق وأكاد أن انفجر، ورغم استجداء معدتي طالبة كفّ اليد إلا أن نفسي تحثني على عدم كفّ يدي، غير آبهة بمعاناة معدتي، فتهت ما بين معاناة معدتي وتمرّد نفسي.
استمرت يدي برفع المزيد من الأطعمة للمعدة حتى بدأت جميع أعضاء الجسم تتأثر من هذا الالتهام الجائر، حينها شعرت بالخطر ولكن بعد فوات الأوان، معدتي تئن من الحمل الثقيل، ومفاصلي لها صرير من الضغط الهائل، وعملية التنفس ضيّقة، في هذا الوقت العصيب تخلّا عني نفسي والشيطان اتجرع الألم جرّاء انصياعي الأحمق لهما، فبدأت ألوم نفسي وقرينها ولكن بعد فوات الأوان.
في هذا الزمن الذي حبانا الله عزّ شأنه من نِعم الأمن ورغد العيش، ووفرة الإمكانيات وهذا كله فضل من الله، وإن لم نتحكم بعواطفنا ونروّضها على النهج الصحيح فصحتنا في خطر، ديننا يحثنا على الاعتدال في كل الأمور، ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كانَ لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنفَسِه.. الراوي: المقدام بن معدي كرب، المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترمذي.
هناك فئة من الناس حصصهم ثابتة وربما تنقص ولا تزيد في الموائد الفاخرة، عيني عليهم باردة، وعلى إرادتهم التي لا تبتزّها المغريات. أدام الله عليّ وعليكم فضله الواسع.
التعليقات
اترك تعليقاً