في حياة كل منا هناك أشخاص نراهم دائما أقوياء متماسكين، وكأنهم لم يمروا بمراحل العمر، بل ولدوا كبارا منذ الأزل، تشعر معهم بالأمان والحماية وكأنهم أوتاد ثابتة في أعماق الأرض، منهم الوالد والأخ والجد، وقد يكون هؤلاء مجتمعين.

لا زلت أذكر أياما محفورة في ذاكرتي في زمن ولى وانقضى، لا زال عبق تلك الذكرى يعطر أيامي، كنت في ذلك الحين أسترق النظر من بعيد لمجلس أبي والذي دائما ما كان مكتظا وممتلئا بأعمامي وعماتي وأقاربي مجتمعين في ذلك المكان يتبادلون الأحاديث الهادئة، كان والدي حاضرا في كل مرة بحضوره الفخم الذي دائما ما كان يشعرني أني متكئة بظهري كله منعمة بكل ما عنته كلمة راحة، مترفة بكل ذلك الحنان والزهو والفخر بوالدي.

كان من أروع ما شهدته ورأيته في مجلس والدي العامر هو الوقار البادي والظاهر على ذلك المجلس، والذي تعلمت منه الكثير من الدروس القيمة والبليغة.

كنت أرى في ذلك المجلس وذلك الاجتماع شخصا واحدا وغالبا ما يكون كبيرهم هو من يتكلم بينما يستمع الجميع بإمعان ودونما مقاطعه.

بعد مرور كل تلك السنون، رحل من رحل منهم رحمهم الله ولكن بقيت تلك الصورة معلقة في أغوار ذاكرتي دونا عن كل الذكريات التي سبقتها والتي تلتها.

يركض بنا الزمن وتمضي الأعوام وننسى الكثير، ولكن القلب يواصل التفاته إلى الوراء.

هؤلاء الأتقياء الأنقياء الذين غادرونا منذ زمن والذين يجددون صبرنا وينفضون عنا غبار الدنيا رغم رحيلهم، عند ذكراهم يتجدد إيماننا وتحلو حياتنا.

ولا عجب أن ترسخ تلك الصورة لأنها حقيقية جدا ولأن الروح تتمسك دائما بما يؤنسها فيكون زادها وإن طال بها الطريق. إلى هذه اللحظة وأنا أراجع كل ذكرى كنت أظن أنها ارتحلت، أراجعها مع روائح الفجر وأراها في كل زوايا وأركان مخيلتي.

أطال الله عمر والدي ورحم الله أمي التي قطع رحيلها قلبي ولم يجبر ما أوحش الدنيا دون زادك من الدعاء.

حفظ الله أحبتنا وأحبتكم أجمعين.