كيف أبدأ مقالي وانتهي ، عندما أتحدث عن رجل عظيم في القلب والفؤاد، تحدث يا قلم واكتب ولا تخذلني عن من أحبه القلب وكان له قدوة ، ذلك الرجل الذي لو كتبت عنه المجلدات لم أوفه حقه؛ رجل ناهز التسعين وأقبل على ربه بقلب سليم .

عن ماذا أتكلم عن صلاته أم قراءته القرآن أم صلة رحمه أم سعيه للرزق الحلال أم خدمته للناس أم اهتمامه بأبنائه وإعانته لهم ، ذلك الرجل الذي لم يكن معه من التعليم إلا المرحلة الابتدائية ولكنه كان حريصاً على تعليمنا ودعمنا بما أعطاه الله حتى حصلنا على الشهادات الجامعية ، رجل مهاب في أسرته فالكل يحترمه ويخطب وده ويستمع لرأيه وحديثه ، لايحب النزاع والشقاق ولا النفاق مع أحد ، كان بيته مفتوحاً لأهله وأقاربه وأخواته اللاتي كن يجلسن عنده بالأشهر ويعولهن ويخدمهن ويقضي حاجاتهن ولم يتأفف بل كان من طبعه الوصل وصله الله ، في كل مناسبة تجده في المقدمة لم أسمعه يوماً ما يتكلم عن إخوانه وأخواته بسوء بل كان يحترمهم ويجلهم وغرس ذلك فينا ، كان يكدح في طلب الرزق ويحرص على أن لا نأكل إلا الحلال لم يمد يده على حرام وكان جل اهتمامه في تربية أبنائه التربية الحسنة .

عندما تصيبنا النكبات والحوادث نجده سنداً لنا ، رجل لاتجده إلا في الصف الأول محباً للصلاة والعبادة لا أتذكر يوماً أنه ترك الصلاة أو تأخر عنها ، لسانه يلهج بذكر الله في كل وقت وحين ، القرآن يتعاهده كل يوم في البيت والمسجد يقرأ ويرتل بما أعطاه الله ، غيور على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فيتابع الأخبار ويدعو على الظلمة والمفسدين ،محب لوطنه حباً شديداً مخلصاً لولاة الأمر فكان يسمي أبناءه على أسماء ملوك هذه البلاد حباً فيهم وفي والدهم الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه .

في صغره كان يكدح مع والده فهو أكبر أبنائه وقد رباه وجعل منه قدوة لغيره ، كان إذا رآنا زغنا عن طريق الهداية والتعليم شد وطأته علينا وعاتبنا حتى نستقيم، وإذا أخطأنا على أحد يوبخنا توبيخاً شديداً ، رجل على الفطرة السليمة لم تدنسها أعمال الفساد ولا الرؤى الشيطانية ولا الأحلام الكاذبة ، محبوباً في تعاملاته وأخلاقه ، ومما أغبطه عليه في آخر عمره نسي كل شي عدا القرآن والصلاة فتجده يقرأ ماحفظ ويصلي ، رجل حفظ الله في الصغر فحفظه في الكبر ، في آخر عمره أصبح لا يميز ولايعرف أبناءه فكنت أقول هذه قد تكون نعمة من الله عليه فتكون الحوادث في الدنيا من موت و مرض لأناس يعرفهم ومع ذلك كان لا يميز ذلك ولايلقي بالاً، فالله قد حفظ عقله للذكر والطاعة فكان ينام مستريحاً هادئ البال.

والدي طيلة السنوات كان يحرص على الأضحية والوصايا التي تحملها وكانت من أجمل فعاليات السنة يذبح بيده إلى السنوات الأخيرة ، رجل محب لأبنائه وأحفاده وجيرانه وقرابته والناس أجمعين ، لا يمكن أن يحرضك على أحد أو يهزأ بأحد أو يكثر القيل والقال ، يقدر نعمة الله عليه فكان يعاتبنا عندما لا نكمل اللقمة أو نرميها ، كان لا يحب أن يجلس في المستشفى عند الحاجة لتنويمه في آخر حياته ويطالب بأن يذهب إلى بيته ويصر علينا ، إذا أصابته حمى بدأ يرتل من القرآن ويسرد ويتغنى به فنعرف أنه قد أصابته الحمى ، هو علم بذاته ومدرسة لغيره ، عندما أخذ الله أمانته كان إنهاء إجراءات دفنه وتغسيله والصلاة عليه من أيسر ما رأيت ولم نجد المشقة والتعب والنصب، أقدم إلى مولاه في يوم غائم صلت عليه الحشود ودعت له وترحمت عليه وأحسنت ذكراه ،توافد الناس من كل حدب وصوب للصلاة عليه رحمه الله ، كان في ليلة وفاته يسلم على والده ووالدته بصوت عال صاحب الفطرة السليمة والقلب النقي واللسان الذاكر .

سوف تفتقده زوايا منزلنا تفتقد دعاءه وصلاته وقراءته وتسبيحه، سوف تفتقد حبه للإنسانية وعطفه على أهل بيته وأبنائه وأحفاده، سوف يفتقده قرآنه الذي كان يقرأ منه وسجادته التي كان يصلي عليها ، في آخر عمره كانت والدتي تعتني به لاتخرج لمكان وعذرها من يقضي حاجات والدكم فتعاهدته بالخدمة، ويوم توفي دخلت عليه تتهادى بعد أن غُسل وبكت بكاءً شديداً حتى كاد أن يغمى عليها فهي افتقدت ركناً شديداً من أركان البيت ، ذهب إلى رب رحيم ابتلاه في آخر عمره بالمرض وهو ماحص للذنوب ورافع للدرجات ، فرحماك رحماك يا الله بمن أحبك ولجأ إليك وابتغاك وجعلك أنيساً له في السراء والضراء واجعله في جنات الخلد وأبدله بدار خيراً من داره ،اللهم إنا نشهد له بوصله لرحمه وهو من أسباب الغفران ودخول الجنة فاغفر له وأدخله جنات النعيم مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

وفي الختام أسأل الله أن يغفر لوالدتي وإخوتي الذين لم يتركوا والدي من الخدمة وقضاء حوائجه حتى أخذ الله أمانته نتعاهده إذا دخل المستشفى ونبيت معه وهو حق علينا، وأقول عليكم بالصبر فوالدنا ممن يرجى له الخير ولاننوح عليه بل نكثر الدعاء له حتى يرفعه الله في أعلى منازل الجنان ولا ننسى أن نصل من كان يصلهم من ذوي الرحم وأن ننفذ عهده وأن نوقف له من الأعمال الخيرية ماترفع درجاته بعد مماته ، والموت سنة الله الكونية في الحياة البشرية لكل بداية نهاية ولم تخلد الدنيا لأحد فهو طريق إلى الحياة الأبدية جنات النعيم ، فلنعمره بما أراد الله وبما أعطانا من أعمار ، نسأل الله أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير .