عندما بلغت الستين من عمري أول ما خَطَر على بالي هو أن أحْمَد الله عَزَّ وَجَل أن أطال في عُمري لهذا السن ولم يتوفاني غراً شاباً صغيراً زمن فورة الشهوة وشدة الإقبال على الدنيا والرغبة فيها، ثم تذكرت قول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام الذي فارق الحياة وهو ابن ثلاث وستين عاماً والذي قال فيه “أعْمَارُ أمَّتِي مَا بَين السِّتيِنَ إلى السَّبْعِينَ، وأقَلُّهُم مَنْ يَجُوُز ذَلِك” (الألباني-صحيح الترمذي) ومعنى “أقلهم من يجوز ذلك” أي قليل منهم من يتجاوز السبعين فما فوق، وكما نعلم جميعا أن لكل إنسان أجل مُحدَّد لا يعلمه إلا الله عز وجل وأن سعادة الإنسان في طول العمر وحُسْن العمل، ومن أمارات الشقاء والعياذ بالله طول العمر وزيادة الشهوات والانغماس في المعاصي والبعد عن الله، خاصة بعد تحذير نبِيَّنا عليه أفضل الصلاة والسلام والذي لابد من التنبيه عليه، أن الله يقطع عُذر المرء في ارتكاب المعاصي أي لم يبقى له عذر بعد بلوغ الستين في قوله عليه الصلاة والسلام “أَعْذَرَ اللَّهُ إلى امْرِئٍ أخَّرَ أجَلَهُ، حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً” (صحيح البخاري) لأن المرء إذا بلغ هذا العمر لابد له أن يعلم بأن أجله قد اقترب وأن يستعد للقاء الله، خاصة بعد بلوغ سن الإنابة والرجوع إلى الله، والدليل أننا في هذا العمر لا يكاد يَمُر علينا أسبوع أو شهر إلا ونُصَلِّي على جنازة أحداً من أقاربنا أو أصدقائنا أو معارفنا -رحمهم الله جميعا- وغالبا ما يكونوا في نفس أعمارنا أو أقل قليلاً ولكن الله كتب لهم نهاية الأجل، وكان السؤال المهم الذي يتبادر إلى ذهني قبل أن أغادر المقبرة في كل مرة هو: متى سيحين دوري لأسكن هذا القبر وتنتهي مسيرتي في هذه الحياة الفانية؟.

إن من نِعَمِ الله التي لا تُعد ولا تُحصى أن مَنَّ علينا بنظام التقاعد الذي أصبح سبب رئيس بعد توفيق الله للتفرغ لعبادته وفرصة كبيرة لابد من استغلالها لإرضاء الله في هذا السن وذلك بلزوم الطاعات والذكر والاستغفار وقراءة القرآن والجِد والاجتهاد وعمل الخيرات وترك المنكرات، وألا يركن الإنسان إلى الأمل الذي يلهيه عن العمل حتى يحين الأجل، كما قال الله تعالى في سورة المنافقون {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} (الآية-10).

والجدير بالذكر أن كان للإمام ابن الجوزي رحمه الله جانباً مميزاً في التربية الذاتية على الاستعداد للآخرة فقد كان يقول “إذا عاد المرء للنظر في مقدار بقائه في الدنيا، فرضنا ستين سنة مثلاً، فإنه يمضي منها ثلاثين سنة في النوم، ونحواً من خمسة عشرة في الصبا، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيراً، فبماذا تشتري الحياة الأبدية، وإنما الثمن هذه الساعات؟”.

وأما ما أشار إليه ابن الجوزي رحمه الله في استغلال الوقت وتنظيمه فقد قال ” فانتبه يا بني لنفسك واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة، واسق غصنك ما دامت فيه رطوبة، واذكر ساعتك التي ضاعت فكفى بها عظة، واعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاساً، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نَفَس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم”.

وأختم برسالتي لكل من بلغ الستين من عمره وتم عذره وقامت عليه الحجة ولم تبقى له شبهه وسَمِع من دلائل الحق ومواعظ الإيمان ومَشاهِد العبرة بأن يجعل كل يوم من أيامه بعد الستين زيادة في الاجتهاد والتقرب إلى الله وتجديد العهد معه والزهد في الدنيا والهجرة إلى الآخرة والعمل على إحسان الخاتمة والحرص على الموت متمسكاً بالطاعات، كما قال الزاهد الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل عندما بلغ الستين وسأله عن الحيلة، فأجابه الفضيل: “تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ، يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ”، وفقني الله وإياكم وجميع من بلغ الستين من عمره في استغلال هذا العمر المتبقي في طاعة الله ورضاه والتقرب إليه كالخيول الأصيلة التي إن شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها للفوز بالسباق، كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام “وإنَّمَا الأعْمَالُ بِالخَوَاتِيم” (أخرجه البخاري ومسلم).