تحدثت في مقالات سابقة عن العلم والتعلم، وما زلت أبحر في تلك الرحلة التعليمية، وتستثيرني تلك المواقف من أبناء وطننا الغالي وكفاحهم للعلم والتعلم. إن العلم ركيزة أساسية للعلوم والابتكارات والتنمية المستدامة، كل الأمم المتقدمة على مر العصور كان تقدمها أساسه العلم، فكلما ارتفع المستوى التعليمي في دولة، ازدادت قوتها ومتانتها وتربعت بين الدول بفرض نفسها بما لديها من علماء.
إن الحضارات الإسلامية والإغريقية والصينية القديمة والرومانية واليونانية واليابانية الحديثة والصينية الحديثة والأوروبية والأمريكية سبب تقدمها ومنافستها المطالعة في العلوم والدراسة والتنقل بين البلدان لنهل العلوم. إن الله عز وجل خلق البشرية وأمرهم بالعلم والعمل، فكلما نما العلم تحسنت جودة الحياة، فالأرض تعمر بهما بخط متوازٍ ،وفي عصرنا الحالي ازدهر التعليم من خلال المراحل التعليمية العامة والجامعات والمعاهد ومراكز التدريب والدراسة في دور العبادة، وهي المصادر الأساسية لطلب العلم. إن العلم ليس محطة يقف عندها المتعلم، ولكنه رحلة تبدأ من المهد وحتى اللحد، تقوى في مرحلة وتقل في مرحلة أخرى. كلما استزاد الإنسان من العلوم؛ اتسع الأفق والتفكير والشمولية لديه، وقل استغناؤه عن الناس، وزاد ثأثيره في التنميه ووطنه ،إن من الأفكار المغلوطة أن نضع في تفكيرنا أن العلم يقف في المرحلة الجامعية، بل هي انطلاقة لما بعدها في الوظيفة والحياة. إن تعليمك واستزادتك من العلم هو حق لوطنك وللأجيال القادمة، فكلما زاد العلماء، نضجت المخرجات للأجيال القادمة بفكر واعٍ وعطاء متجدد وتنمية مستدامة.
انظر لما كنا عليه في مملكتنا العربية السعودية عند تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. انطلقت وكان العلم في بدايته، وكانت دولتنا تستقطب الكوادر التعليمية من الخارج بنسبة كبيرة لكي تعلم أبناءها. واليوم مع توارث العلم وتبنيه من أبناء وبنات الوطن، خرجت لنا أجيال متعلمة وقل الاعتماد على الكوادر المستقطبة بشكل كبير ،وفي رؤية المملكة 2030 بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين مُلهم الرؤية الأمير محمد بن سلمان، كان من أساساتها برنامج تنمية القدرات البشرية الذي اهتم بتوفير المعارف والتدريب المهني وتحسين المخرجات التعليمية ودعم الابتكار وريادة الأعمال وتحسين تكافؤ الفرص التعليمية وغيرها من أهداف التنمية التعليمية.
في قصة طريفة لمعلمين مكافحين جعلوا التعليم نصب أعينهم وعرفوا قيمته، يسر الله لهما فرصة تعليمية لإكمال الدراسات العليا في جامعة بالأردن. كان تحديًا لهما التوفيق بين الوظيفة ومتطلباتها وأهلهم والدراسة، ولكنهم جعلوا من تلك الصعاب سلمًا للنجاح. بدأوا رحلة الماجستير، وفي نهاية كل أسبوع كانوا يذهبون بسيارتهم الخاصة لتلك الجامعة التي تبعد آلاف الكيلومترات. مبتغاهم كان العلم الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة” ،صبروا حتى كتب الله لهم النجاح والتوفيق وكانوا من الأوائل في تلك الجامعة. ثم رشحتهم الجامعة لإكمال المسيرة في الدكتوراه لتميزهم. في 7 سنوات حققوا مبتغاهم ونقلوا ما تعلموه لبلادهم من علم ومعرفة.
وهناك نماذج مشرفة أخرى في مجالات الطب والهندسة والعلوم. فمثلاً، الدكتورة حياة سندي، عالمة سعودية في مجال البيوتكنولوجيا، واصلت دراستها حتى حصلت على الدكتوراة من جامعة كامبريدج، وأصبحت مستشارة في منظمة الصحة العالمية.
رغم أهمية التعليم المستمر، إلا أنه يواجه تحديات عدة، منها صعوبة الموازنة بين العمل والدراسة، والتكلفة المادية للبرامج التعليمية المتقدمة، وسرعة تغير المتطلبات المهنية في سوق العمل. للتغلب على هذه التحديات، يمكن اعتماد أساليب التعلم عن بعد، وتوفير منح دراسية، وتطوير برامج تدريبية مرنة تواكب احتياجات سوق العمل، إن المناصب العلمية ليست هدفًا بذاتها بل هي وسيلة لمفاتيح العلوم والمطالعة. لا يمكن أن يحقق الإنسان العلوم والرفعة وهمته ضعيفة، أو أن يحصل على الشهادات العلمية بطريقة سريعة وبدون جهد وكفاح. فسنة الله في أرضه أن جعل من أراد العلوم أن يسعى فيحصد، كما كان في القرون الأولى يسافرون ويقطعون الفيافي والقفار للاستزادة والنهل من العلوم بجميع أنواعها.
وأختم بأبيات من قصيدة للعالم والشاعر المصري شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري (1211-1294م)، حيث يعبر فيها عن شغفه بالعلم والمعرفة:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طربا لحل عويصة
أشهى وأحلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها
أحلى من الدوكاء والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها
نقري لالقي الرمل عن أوراقي
أأبيت سهران الدجى وتبيته
نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي
هذه القصيدة تعد من روائع الشعر العربي التي تمجد العلم والمعرفة، مؤكدة أهمية العلم ومكانته السامية في تراثنا وثقافتنا، وضرورة الاستمرار في طلبه والسعي وراءه.
في الختام، التعليم المستمر ليس ترفًا بل ضرورة حتمية لمواكبة التطور العالمي. علينا جميعًا أن نجعل من التعلم عادة يومية، وأن نشجع أبناءنا وبناتنا على الاستزادة من العلم. فلنجعل شعارنا: “العلم نور، والجهل ظلام، ورحلة الألف ميل في العلم تبدأ بخطوة”. دعونا نتخذ هذه الخطوة اليوم، لنبني غدًا أفضل لأنفسنا ولوطننا.
التعليقات
صح
اترك تعليقاً